Saturday, December 23, 2006

رواية الركض خلف السراب

" 4 "
تهالكت . صرت تتابع البشير وهو يبتعد ليلبي رغبات زبائن كانوا قد ارتادوا مقهاه البدائي . الحرارة كانت مفرطة رغم ان اليوم لم يكن قد توسط بعد .و الذباب كان متواجدا بكثافة ويمنع الناس من الخلو الى ذواتهم . لكن ما كان يدور في ذهنك كان اقوى من مما كان يجري حولك . عيناك رغم ذلك لم تفارق البشير . تساءلت وانت تنظر اليه . ماذا كان يمثل لك تلك اللحظة ؟ هل كان خصما شأنه شأن الزمن و العقل الالكتروني ؟ ام منارا يكشف الممرات في متاهة تشابكت خيوطها ؟ لم تتوصل الى شئ . غير ان الخوف كان طاغيا على احساسك . و الوساوس كانت تتعاظم . طفقت تنظر الىالشارع الذي كانت تعبره الشاحنات العسكرية و تتجه ببصرك الى المحطة . تنظر اليها باحساس متورط في قضية مبهمة ، لذلك كنت تفكر فيما يمكن ان تفعله للخروج بأخف الاحكام . البشير يسحبك من شرودك مقدما اليك شحصا كان قد اتى برفقته : ها مدرس جديد . شخص في ريعان الشباب . متوسط الطول . اسمر البشرة . فحم الشعر كليل صحراوي . يخفي عينيه بنظارة شمسية سوداء . ابتسم ليكشف عن اسنان ناصعة البياض . وقفت . احتضنته وذبتما في عناق حار طويل . جلستما . قدم نفسه . البدراوي من العاصمة . تحدث عن صدمته . عن الاحلام التي تخلى عنها او تخلت عنه . غير انك لم تتابع ما قاله الى النهاية . كنت منشغلا بأشياء اخرى . حاجتك الى البشير التي بدات تتلاشى . لكن اهم من ذلك كنت تبحث عن ذلك السر الذي صنع الحرارة في هذا اللقاء ، اذ كيف يلتقي انسان اخر بتلك الحرارة في حين لم يسبق لأحدكما ان التقى الاخر . البدراوي لم يمض في الحديث الى نهايته . و البشير تحول الى ما يشبه منارا يرسل اشارات لسفن تائهة ويدلها على مرفئ امن . المجلس تنامى بسرعة . وفي كل لحظة كان ينضاف وجه جديد غريب سرعان ما كان يعاوده الاحساس بالامن . وتحول المتحلقون الى ما يشبه وفود في محفل دولي . الكم كان مهما يبعث الارتياح ويطمئن في كونك لن تعدما رفيقا تثق فيه في هذه الرحلة الغريبة . صوت البشير يرتفع من بعيد مخاطبا الجمع : ها معلم اخر جديد . معلم جديد كان له معنى مهما تلك اللحظة . انه كان يعني كائنا ليس له علاقات سابقة في ذلك المحيط . وانه مثل جل الجالسين في اطار تاسيس علاقات . وان الافضلية في ذلك ستمنح حتما لاشخاص لهم نفس الاحساس ،فلا اكثر ثقة لدى انسان غريب في اخر غريب مثله . ومن ثم كان اي شخص يقدم بتلك الصفة ينظر اليه بألفة واستعداد لبناء مشروع رفاقي مشترك . لكن الامر كان مختلفا كليا مع "امبارك" الذي كان يقطع الخطى باتجاه المجلس . كل شئ فيه كان يثبت انه محتلف عن الاخرين . نظراته المرعبة التي تشبه نظرات مفتش شرطة . شعره الاجعد . سمرته الداكنة . بطنه المتدلى . وساعداه اللتان تشبهان ساعدا سائق شاحنة ضخمة . بفتور سلم على الجمع . تامل وجوه الحاضرين الذين كانوا ينظرون اليه في صمت . أما حين تحدث فقد دفع بالامر الى حدود لا تطاق . قال امبارك وهو ينظر الىالوجوه الشابة التي ربما كانت هي من اوحى له ليقول ما قاله : يجب ان نؤسس فرعا لحزب يساري هنا . كلامه كان له مفعول قنبلة شديدة الانشطار .البعض اعاد الكأس التي كان في طريق رشفها الى الطاولة . والاخرون انتزعوا من اعماقهم . وهناك من ظل ينظر اليه في ذهول . من اي طينة هذا الرجل ؟ ولماذا لم يكن للواقع اي حضور في تفكيره ؟ وكيف اعتبر ان الحاضر لا يختلف في شئ عن الماضي ؟ ولماذا لم يدرك ان هناك شيئا ما يجب تركه جانبا الى اشعار اخر ؟ هل كان امبارك يعي حقيقة ما تفوه به ؟ الم يكن في مقترحه انما حاول فقط ان يعطي مجرد انطباع عنه في كونه انسان تقدمي لا اكثر ؟ لكن ألم يكن فيما ذهب اليه مصيبا ماذام ان الامر كان يقتضي فعلا موقفا ثالثا في عالم الناس فيه منقسمون الى قسمين . اما مع المخزن واما ضده ؟ كل النظرات كانت تنطق بحقيقة مفادها ان مرافقة امبارك كفيلة باثارة مشاكل لا حصر لها . وانه من المستحب ، بل من الواجب ان يوضع امبارك في مكان بعيد . فاتح القادم من احدى مدن الاطلس قام من مكانه وهو يبتسم وقال مخاطبا الجميع : ايها الاخوة ، سيكون لدينا ما يكفي من الوقت لنتحدث في مختلف المواضيع . اما الان فعلينا ان نبحث عن سكن . اريد ان يرافقني شخص او شخصان فمن يتطوع ؟ كنت تلك اللحظة اشبه بمن غاصت قدمه في ارض موحلة ، وحين كان يحاول تخليص القدم الموغلة وقعت القدم الاخرى فلم يجد سوى ان ينظر حواليه متطلعا لنجدة لا يمكن ان تنبعث الا من الغيب . غير ان السماء كانت تبدو بعيدة ، ولذلك فالتطلع اليها كان يبدو غير مجد . نظرت للخلف . الى حيث تبدو طريق العودة مهينة ومغرية . سألت نفسك : أيهما الافضل ؟ حياة متسكع منبوذ حر أم اسير مهان كبلته لقمة العيش وشروط الاندماج ؟ فاتح يدفعك الى تأجيل البحث عن جواب من خلال حثه لك على مرافقته في البحث عن مسكن . وفي الطريق تحدث راسما تفاصيل الزمن القادم . الزمن الذي يجب ان يبدا بابعاد امبارك و السياسة و الانغلاق في التعامل و الاقتصار على الوافدين الجدد . كان فاتح نحيلا . متوسط الطول . اسمر . شعر مجعد . يلمع الذكاء في عينيه . كثير المبادرات . في حديثه رقة . من الوهلة الاولى حاول ان يكون قائد المجموعة . حضر قبل وقت طويل ، وطاف كل منازل آسا الصالحة للايجار . ولهذا السبب لاحظت انك كنت تسير رفقته دون ان تسالا احد عن شئ . ومن بعيد اشار الى منزل يبدو هو الافضل وقال : انه الافضل من كل الدور هنا . اعرفت لمن هو ؟استغربت ذلك وقلت : لماذا هو فارغ اذا كان هو الافضل ؟ - كيف اعرف ذلك وانا قبل حين لم اكن اعرف حتى اسا نفسها . - انه لشخصية مهمة هنا . وقد حظي بزيارة مقاتلي جبهة " البوليزاريو" في اقتحامهم الاخير لأسا لكن لحسن حظ الرجل انه لم يكن متواجدا تلك اللحظة . انتابك هلع هائل . وتحول الهواء في قصبتك الهوائية الى كتل منفصلة كل واحدة عن الاخرى .احسست ان قواك تفرغ منك لتنساب على الارض . صرت في حاجة الى قوة خارقة تستطيع من خلالها ان تثبت رجليك . انتابتك رغبة هائلة في ان تولي الادبار . ان تفر بعمرك بعيدا عن الاسر او الموت . نظرت بتوسل الى محدثك وانت تتمنى ان يحرضك على الانصراف لتعود من حيث اتيت . قلت بانكسار شديد - اتجاه اي مصير نسير ؟ خاب رجاؤك حين اتاك صوت مرافقك ساخرا . - اعتراضك كان يمكن ان يكون سديدا لو اننا كنا حقا من نختار مصائرنا . لكن ماذا نفعل ان كانت هي التي تفصلنا على قدها ؟ توارت مؤقتا التطلعات التي كانت تدفع بك الى النظر للخلف . الا انها لن تختف كليا ، وخلف مواقع مبهمة ظلت متحصنة تناور وتدفع الاسئلة الى الواجهة . ومن الاعماق تصاعد احتجاج صاعق يصرخ فيك " حياتك ليست بخسة لهذا الحد كي تنتهي على هذا النحو . "قلت لمرافقك : لم اتوا الى تلك الدار ؟ قال فاتح ساخرا : لكي "يعزموه الى تندوف" . - الا ترى انه في حال تكرار الزيارة قد نكون نحن من سيعزم نيابة عنه ؟ ضحك فاتح وقال : انت لا تعرف الصحراء . يجب ان تعلم ان الامور تسير هنا بسرعة مذهلة . فاخبار اليوم الاول من الاسبوع تصير قديمة عند نهايته . توقفت عن السير فقال فاتح : مابك ؟ قلت من غير تفكير : هل الحياة اكثر من فرصة ؟ وهل الاستفادة منها تشترط سلك نهج وحيد ؟ لم يفقه فاتح قصدك فقال سائلا : ما بك؟ - اسمع .المرء عندما يرى الموت بعينيه الجاحظتين كامن هناك عند منعرج ما قريب ويصر بملء ارادته ان يتجه صوبه فلا يجوز له بعد ذلك ان يحمل الاقدار مسؤولية نهايته . ابتسم فاتح وقال : انت تتحدث عن غني في سوق ممتاز و ليس عن الحياة . اما ان شئت ان تنظر للمسألة بنفس المنطق فامض الى النهاية واسال نفسك قبل ذلك هل في كل ما عشته الى الان كنت تملك اختيارك ام ان انغلاق الابواب في وجهك كان دوما يدفع بك صوب الباب الوحيد الذي كان يظل مفتوحا ؟ لم تشا ان تعلق . استمرار الجدل لم يكن يولد غير الضيق و الخوف من المستقبل . حاولت ان تقنع نفسك . ان تطمس اسئلتك . لكن الى متى سيدوم ذلك ؟ و الى متى سيصمد هذا المنطق امام قرائن تثبت انه هو نفسه قد يتحول الى خصم في قضية اخرى تخصك لوحدك سيجعلك في النهاية قد تخسر كل شئ بما في ذلك صوابك ...
يتبع

No comments: