Tuesday, December 26, 2006

مع الكاتب القطري "سعود أل ثاني" ... انهيـــــــــار

يحفل هذا النص بمعطيات كثيرة تستدعي التوقف . منها لغة النص الثرية ، والصور الفنية ، والتعابير المتضمنة للكثير من الجمالية .إضافة لهذا قد تثار تساؤلات بخصوص الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه النص. لماذا كتبه رجل بلسان نسوي ؟.وأيضا ما الإفادة التي تفصح عن دلالات الكلمات وما إن كان يتوجب التوقف عند الحدود التي تقف عندها ،أم أن الكلمات ليست مجرد رموز لدلالات هي أقوى من أن تستوعبها اللغة . نص يفترض تساؤلات كثيرة ، تبدو الإجابات عنها مهما كانت متباينة تحظى بنفس القدر من النسب القابلة للتأكيد أو النفي . وكيفما كان الحال فاستحضارها هو مؤشر على توقد الذهن واستيقاظه لقراءة النص أو كتابته من جديد .من مميزات هذا النص أنه صنع وحدته معتمدا على تصارع قوى متناقضة ، مدته بدينامية وتوقد نثر على جنباته تمثلات رؤيا جديدة متمثلة في قوة تنزع إلى الفوضى والفوضى هنا لا تعني غير بعثرة ما هو موروث ومتراكم عبر مسار تطور الإنسان من الأغوار القديمة الموغلة في التاريخ إلى المستقبل ، سعيا إلى نقطة تبحث فيها قوة الفوضى عن توحد مع قوة منظمة تتولى ترتيب الجديد.خذني إليك و لنرحل فيك . . خذني إليك أنا ليلى الهاربة من سطو القبيلة . . المتبرئة من عشق قيس إلى قلبك . .هل يعني أن يقدم إنسان نفسه لآخر سوى أنه كان مجهولا من قبل ؟ ... " أنا ليلى الهاربة...." وماذا يعنيه النعت هنا في الجملة ؟ ...."الهاربة " هل يعني غير التميز عن ليلى الأخرى التي تعيش الأقدار التي لونتها مشيئة القبيلة ؟ ... ولماذا اختار الكاتب اسم ليلى بالضبط ؟ هل هو أي اسم للدلالة عن أنثى أم أنه اسم مرتبط بحمولة لها أبعادها الثقافية والتاريخية ووقعه في الذاكرة ؟الكاتب اختصر كل شئ حين أردف هذا التقديم الذي هو ميلاد بما يحيط به . فالولادة لا تأتي من فراغ . بل هي مرتبطة برحم ومخاض وإخصاب . ولأن كل ولادة مرتبطة بما ذكر ، فليلى الهاربة أو لأقل الجديدة هي خارجة لتوها متسللة من سطو القبيلة . فأي نوع من أنواع الارحام ذلك الذي خرجت منه ؟ واي اخصاب ذاك الذي تم وأفرز هذا المخلوق المتمرد ؟ السطو هو عملية مداهمة مباغتة يكون لعنصر المفاجأة مفعولا قويا يدفع المهاجم" بفتح الجيم" إلى الاستسلام بشكل لا يملك في الأمر اختيارا . وأثناء عملية استسلامه يعيد ترتيب كل شئ، ويفكر ما ان كان هناك من شئ يستعمله يفضي الى خلاصه . غير ان السطو في هذا النص ليس عملية مداهمة مباغتة . بل هو فعل منظم له أسس تخدم مرام وأبعاد . والذي يمارس السطو هو القبيلة . و القبيلة كيانمجتمع حول ميثاق يستوجب من ضمن ما يستوجبه تقوية كل ما من شأنه تدعيم التماسك والروابط التي تصنع القوة ، ويطمس كل المعالم ويغيب كل ما يجعل تلك الروابط تضعف و تجعل القبيلة قد تقاتل نفسها . فهل كانت ليلى عبر التاريخ الباب الذي يمكن ان يلجه ضعف القبيلة ما دامت الأخيرة قد تصنع همة الرجال وتتحكم في عقولهم ولا تستطيع التحكم في قلوبهم ؟ خذني إليك . . أنا المتمردة على جدتي شهرزاد . . فلا حكايا لديّ . . و لا أقمار أحملها بين كفيّ . . لا شيء سوى لغـم مختبئ بين أضلعي !! . .في هذا المقطع صرنا أكثر تقدما . اذ لم نعد أمام ولادة ، بل صرنا امام معالم هوية حيث اتضحت اكثر قوة الفوضى والتمرد ." شهرزاد" في النص ليست سوى قياسات محسوبة باتقان . فشهرزاد كما في الحكاية لم تكن امراة جميلة فحسب ، بل انها نموذج استثنائي لكائن توازى لديه شدة الجمال مع رجاحة العقل والذكاء . ومن ثم كان طبيعيا ان تتحول شهرزاد ليس لمجرد مخلصة لبنات جنسها ، بل الى رمز للقدرة على ترويض أشرس مستبد ليصير كأي طفل ينام متوسدا فخذ جدته . وكل ذلك لان الحكايات ليست مجرد تسلية فحسب ، بل هي حابلة بالدروس والعبر والمغازي . ومن ثم كان رهان شهرزاد وسلاحها السري الذي لم يدركه شهريار ، واستطاعت به تفجير طباعه الوحشية وان تبني على أنقاضها شخصية أخرى كانت هي من وقع صك الخلاص .حفيدة شهرزاد تعيش زمنا آخر في النص . فالليل ما عاد داكنا ، ولا مناسبا للحكي . وحياتها ما عادت مرتبطة بقدرتها على جعل الآخر يستبقيها من أجل شئ مهم لازال هو في حاجة اليه منها . حفيدة شهرزاد تعلن تمردها على وصفة جدتها التي ما عادت سحرية كما كانت . فهي لا تربط بقاءها بما يمكن ان تمثله من أهمية تخدم حياة الآخر . هي كائن ترى أن لها ما للآخر وذلك لغمها السري الذي تحمله بين ضلوعها . خذني إليك . . لأتخلى عن ولاّدة و أحيا بك أسطورة الريح و المطر . . !يا لما يمثله هذا المقطع من حيرة في البداية . فصراع الاخرى من أجل الحياة والبقاء بدا لحد الآن هو صراع ضد الآخر . فكيف نتفاجأ في هذا المقطع بهذه الدعوة وهذا الاصرار الموجه للآخر ؟ .... " خذني اليك " .... المتكلم يبدو هنا في حالة عجز الى درجة الشلل لحد أنه لا يصل للآخر الا برغبته فكيف يفضي صراع الوجود الى الانصهار في الاخر ؟... فهل المخاطب هو كائن موضوعي مستقل أم أنه مجرد نقطة يصنع التقاطع فيها أن كل طرف يحقق قدرا من تواجده ؟.. لا شك أن النص يستهدف السطر الثاني من التساؤل .. ولا شك ما يدعم ذلك هو فعل الأمر الوارد في الجملة "خذني " ... اذ هو لا يعبر عن تفكك وتغيب بقدر ما يعبر عن مشيئة . و بالتالي يعبر الامر عن توحد وانصهار ...
يبدو الجزء الثاني من حيث الشكل منفصلا كليا عن الجزء السابق . فالخط البياني المتميز بالتصاعد ما لبث أن توقف ، واتخذ منحى آخر . و المساحات البيضاء صارت اكثر اتساعا وتباعدا لتفسح المجال للغة أخرى .الأمر في هذا الجزء شبيه بذلك الهدوء الذي يعقب مرافعة ساخنة . ومرد ذلك الهدوء إلى أن المرافع لم يهدف إلى استثمار مرافعته كي يستصدر إدانة ، و إنما هدف إلى خلق مناخ جديد لا تصادر فيه الأحلام ." كم أكرهك يا رجلا عاث في داخلي حبا.. ليجعلني أحلم من جديد "الحلم هو اختزال لأشياء كثيرة . بل هو الحياة كلها. فهو ليس بذلك الشبيه بالسراب الذي يجتاح الحالم وهو نائم . بل هو طموح واعد بالمكاسب التي يحول بينها انعدام جسور وسبل بعد أن يكتشف أن خرائطه المساعدة للوصول إليها مغلوطة المفاتيح ." ما أسوأ أن أحلم أنا المطرودة من جنة الأحلام بلعنة الفرح "ما هية الحلم تتضح أكثر هنا في هذا المقطع .الحلم هو نوع من التوق إلى شئ هو بالتأكيد جميل بالنسبة للحالم . لكن هذا الحلم و إن كان يجري داخل ذهن أو مخيلة في لحظة منعزلة . إلا أن أبعاده وما يمكن ان يسفر عنه الحلم لا تتوقف عند المجال الذي ولد فيه .تحقيق الحلم مرتبط بانهيارات أعمدة وبروز أخرى بسبب ارتباط كل ذلك بما يختمر ويعيشه الكائن داخل واقع اجتماعي . ولهذا السبب نجد النص يستحضر تلك القوة المحبطة للحلم . وهذا ما يفسر التضارب على مستوى الأفكار و المعجم " ما أسوا ان احلم " "أنا المطرودة من جنة الأحلام" " لعنة الفرح "هذا المقطع يثير أسئلة كثيرة في الذهن . فمتى يصير الفرح لعنة ؟ ومن يمتلك الشرعية ليمنح للمفاهيم شرعيتها ؟ من أين تستمد تلك السلطة ؟
وخلاصة ذلك أن الجماعة هي التي تتولى وضع القيم و المثل . فهي التى تحدد ماهية الخطأ و الصواب . وتعمل أيضا أن تترجم تلك القيم داخل سلوكات الأفراد وهم يعيشون واقعهم الإجتماعي . ومن أجل ترسيخها حددت حوافز للفرد كي يمتثل تلك القيم كالإستحسان و الإشادة و التنويه ، ومقابل ذلك نهجت نهجا مختلفا لمن يتمرد او يرفض تلك القيم كالعقاب و التنبيه و التوبيخ و النبذ . ولا شك أن الكاتب يضيف من خلال هذا النص "اللعنة".اللعنة ليست هنا بذلك البعد الديني . بل هي مسار مخالف لما هو متعارف عليه ومحاولة امتلاك ما يكفي من القوة من أجل إعطاء دلالات جديدة للمفاهيم ، ونبذ الدلالات المتوارثة لمفاهيم تغيب وتطمس معالم وتثبت أخرى داخل صراع تبدو واجهته أخلاقية صرفة وتختفي داخله كل ما له علاقة بمختلف أشكال السلط التي تلجم تطلعات أطراف متضررة ، وتحول دون تحقيق مستوى من الندية . وقد عبر الكاتب عن ذلك بمهارة حين استخدم رمز "حفيدة شهرزاد" بين الحفيدة و الجدة هناك عصور بمخاضاتها و تأثيراتها على من جابوا بساطها الزمني . ففي زمن الجدة كانت الأصوات خشنة موحية بالسطوة و القوة . وهي وحدها ما كان يسمع . وصوت هادئ ناعم لم يكن له من حضور إلا في لحظة استرخاء يكون الأخر في حاجة إليه كي يساعده في استجماع قواه من أجل الاستعدادا لانقضاض جديد . ولذا لم يكن بمقدور ذلك الصوت سوى البحث عن الاستمرار معلقا كل أماله على الزمن كي يفعل تأثيره في الاخر . وهو المدى الفاصل بين الجدة و الحفيدة .الحفيدة في زمن آخر . وعلاقتها بها لا ترجع إلى عامل الدم و القرابة . بل إن الإنتماء إليها مرتبط بالقضية . القضية الخالدة المتسمة بحوار الهامش و المركز .الزمن إذن مختلف كليا عن زمن الجدة . فالليل ما عاد داكنا كما عاشته شهرزاد الأولى . ولذلك وجد الديك نفسه عاطلا حين لم تعد الضياء مقرونة بطلوع الصباح وبعد أن وجد نفسه يتلو بيانات خاطئة . والحفيدة صارت مثلها مثل سائر البشر .لها نفس الحاجة للإستمتاع بالحكي . في حاجة لمن تحكي له مثلما هي في حاجة لمن يحكي لها . لكن أسماعها ما زال يتناهي اليها بعض الأصوات المزمجرة قادمة من بعيد ، مصحوبة بهمس يلطف من نبرات تلك الأصوات .أصل الان الى اسئلة البداية . هل هذا الحلم أنثوي خالص ؟ و إذا كان كذلك فلم ولد داخل ذهن رجولي ؟ هل هو نوع من التصويب من الكاتب لنا جميعا بأنه يتوجب علينا أن نعيش قضايانا كبشر دون تمييز للنوع ؟ هل قصد أشياء أخرى ظلت مختفية في أحشاء النص ؟هي أسئلة كثيرة متروكة لنا جميعا كي نبحث لها عن إجابات .
عبد الله البقالي

No comments: