Saturday, December 23, 2006

رواية الركض خلف السراب

" 3 "
لم تبد في الرحلة فائدة . عدت من حيث اتيت . حجزت غرفة في في فندق ونمت بعمق وكانك كنت تهئ نفسك للفصل القادم . في الصباح سمعت وقع خطوات قادمة . استدرت لترى صاحب الفندق الذي بادرك بالتحية : - عيد مبارك سعيد . انذهلت وقلت : أي عيد ؟ لم تسمع الجواب ، بركان نشيط استيقظ فجأة من خموله وبدا يرمي بحممه وه داخلك . وظلمة الكون كلها اجتمعت في حجم صغير لا يصدق وبداتى تتكاثف حول عينيك . و الجرح الذي حسبته سيندمل مع مرور الوقت تحول الان الى اخاديد فوارة ينزف دما من روحك وجوارحك . تغمض عينيك . تمرر يديك على حقيقة تنمو وتترعرع مع كل خطوة تخطوها الى الامام . تسأل نفسك : هل كنت تدرك هذا المعنى للعيد قبل اليوم ؟ بل ماذا كنت تعرف عن العيد ؟ الثوب الجديد . القروش القليلة التي كانت تجعل اليوم استثنائيا . متابهة الكبار وهم قادمون من المصلى منشدين نشيد العيد . تبادل الزيارات . فك الخصومات . و اهم من هذا كله اللحم المهيأ بطرق شتى و الذي يؤدي الافراط في تناوله الى الاسهال ... لكن كيف تراه الان و انت تنظر اليه بعد بالعدسة التي صنعتها من الغربة التي تزداد قتامة مع كل خطوة تخطوها الىالامام ؟ تصل الى احتمال او جواب وحيد . العيد هو ان تنتفض ضد هذا الاحساس . هو ان تئن فتجد الاحضان تنفتح لتتلقفك . هو ان تشكر فتتسع الاحداق سائلة عن ما دهاك . لكن في انتظار ذلك يجب ان تتعلم . تعمد الى فرار جديد . الى الثلاجة او مشجب المستعصيات . عدت للشرفة ثانية . بدات تتابع الاطفال الذين كانوا يجوبون الشوارع الفارغة من الكبار . شخص يقترب منك . تستدير . يسألك بدون مقدمات : لست من هنا ؟ تلقي عليه نظرة وتجيب : - الامر كذلك - ماذا تفعله في فندق في يوم كهذا قد لا تجد فيه ما تاكله ؟ - انا مسافر في طريقي الى آسا تسمر الرجل في مكانه وقفل عائدا اليك وقد تغير شكله : أقلت آسا ؟ لأي شئ انت ذاهب الى هناك ؟ أفهمته انك في طريقك الى هناك للمرة الاولى . وانك ستشتغل في حقل التدريس . رد عليك الرجل : أهو انتقال تأديبي ؟ لا شك أنك قمت بعمل فظيع كي يبعثوا بك الىهناك . عبارات الرجل جعلت الصوت يحتبس عند مخارج الحروف . ما عدت تشعر بالغربة . ما عدت تشعر بالجوع . تمسكت بالقضبان وقلت للرجل : اذن انت تعرفها .. لم يأبه الرجل بسؤالك ومد خطاه الى الامام . وحين اصررت على ان يخبرك عنها قال لك مزجا بك في مزيد منالخوف و الرهبة : ستعرفها كما عرفتها .. عدت الى غرفتك . منظر وحيد ظل يداعب المخيلة . انه طريق العودة . العالم الذي طالبما اتهمته بأنه قديم متهالك لا ينفع في شئ بدا اكثر رحابة و اتساعا . و الوجوه حتى تلك التي كنت تشمئز منها بدت اكثر حنان ولطفا . طريق العودة سالكة . جنباتها مزهرة . و الحياة في اقاصيها حبلى بالحياة و الامن . شئ واحد يعكر كل هذه الصورة . نظرة امك التي تخترق المسافات وتستقر على وجهك ترهب الاحساس الذي يراودك . والجمل الاخضر الذي ستسمع صفيره بمجرد ان تحجز تذكرة العودة . لم تستطع النوم . لم يهدا بالك . لم تستقر على قرار . ريشات خالك وحدها ظلت تملك القدرة على الحركة . تحاول ان ترسم ذلك الشئ الغامض الذي يترقبك على بعد اميال . حسمت ترددك ولممت اشياءك واتجهت الى المحطة . سمعت عاملا بالمحطة ينادي باعلى صوته المسافرين المتجهين الى آسا . اتجهت صوبه وسالته عن السيارة . دلك عليها . سيارة تعود لعقود خلت . شكلها كشكل سهم من الامام . لها ما يشبه اجنحة من الخلف . وصوت محركها حاد بحيث يوحي انها اصغر من حجمها . بداخلها رجل مسن . ينظر اليك باستصغار وفي الوقت نفسه يحاول ان ينفذ الى ما وراءك . يسألك بترفع : مدرس ؟ اليس كذلك ؟ تجيب بالايجاب فيعقب دون ان ينظر اليك : مسكين ..ا لم تعرف ما ان كان تعقيبه كان يفيد تعاطفا منه معك ام كان لشئ اخر . انطلقت السيارة بعد ان استوفت عدد الركاب . وبعد لحظات كانت تتخذ الوجهة الجنوبية الشرقية . ملامح البداوة تبدا وانت لكم تغادر المدينة بعد . و الطريق التي تمتد مخترقة الكثبان الرملية بدت تشبه الطريق التي شقها موسى وسط البحر ، مع فارق ان الاولى افضت الى النجاة من البطش ، في حين كانت طريقك تفضي الة عمق متاهة لا تردي منتهاها . ولا شئ كان يثبت ان الواجهة الاخرى من الطريق التي تسلكها الان فيها حياة لولا القوافل العسكرية التي كانت تقطع الطريق وهي ماضية في الاتجاه المعاكس . سيارة عسكرية تتقدم قافلة وتطلب من السائق ان يخلي الطريق كليا للقافلة القدامة . القافلة كانت طويلة جدا وهو ما دفع الركاب لمغاردة السيارة للاستراحة من التعب و الحر الخانق . صف طويل من شاحنات ضخمة تحمل على ظهورها دبابات وقد اختير لكل واحدة اسما . : نضال - جهاد - ... انتابتك احاسيس غريبة وانت تتامل ذلك الصف . اثارك شاب يافع العمر كان جالسا فوق ظهر دبابة ، هو بدوره كان ينظر اليك و يتأملك .. كم ربيعا عاش هذا الفتى ؟ تقهقر تاثير احاسيسك . ومن غير تفكير نظرت الى الفتى وحركت رأسك بطريقت اردت ان تقول من خلالها : أرأيت ما فعلته بنفسك يا فتى ؟ خطابك وصل بشكل جيد الى الفتى الذي رد بأن لم انامله مثلما تكون وهي تحمل لقمةالى الفم وهز كتفيه في الوقت نفسه وكانه اراد القول : انها لقمة العيش ... ثم لم يكن امامي اختيارا اخر . اذهلك الفتى والحديث معه ، وكبر حجمه وكبر في نظرك . وكيف لا واستمرارية حياته تتوقف على قدرته وبراعته في مراوغة ومغالطة الموت . حاجز امني يستوقف السيارة عند جبل " امزلوك" الصخري . دركي اسمر يلقي نظرة على وجوه العابرين . ابتسم وهو ينظر اليك قائلا : مدرس ؟ اليس كذلك ؟ لا تقلق .. سنلتقي كثيرا . السيارة توالي انحدارها بعد ان تجتاز الحاجز الامني لتقطع طريقا مستويا لا اثر للحياة فيه غير بعذ النباتات القصيرة ذات منظر يدل على شراستها ، وبعض الحياوانت الصغيرة التي تمر بسرعة . وخيام متباعدة جدا هنا وهنا . تسأل نفسك ماذا يجد الناس في الاستقرار في ارض مثل هذه . اكيد ان ذلك حوار قديم جدا بدا مع ظهور الانسان على الارض . حوار تتواصل فصوله هنا بكل حدة . ومن ثم فتواجد الانسان في ارض كهذه لا يعني سوى شيئا واحدا وهو انه يحب ركوب التحدي . آسا تظهر الان فجاة كوعاء تشكل حافته الجبال الدائرية التي هي بلا قمم . ثم تبدا على شكل سهم يبتدئ غربا ويتسع عند الوسط و يضيق كل ما اتجهت شرقا اتجاه شارع "الزاك" يعبرها شارع متاكل الجوانب يقسمها الى شطرين . تتوزع على جنباته متاجر وتتفرع عنه طرقات غير مرصفة تنتهي الى الاحياءالتي تشكل أسا . لكن اسا الحقيقية تقبع هناك في الواجهة الاخرى ما بعد الواحة . في القصر . لكن القصر او اسا القديمة صارت خاصة الان بالسكان السود البؤساء الذين و الواحة القابعة في الاسفل ما عادت مجرد فاصل جغرافي بل فاصل في التايخ و المكاسب ايضا . هكذا ترقد اسا على قصص ثلاث مائة وستين وليا صالحا . وبقايا اثار اقدام النبي على احدى الصخور . اما كيف وصل النبي الى هناك فذلك ما لا تجيب عنه الحكاية . غادرت السيارة وانت تنظر الىما ينتصب امامك كمثل من اقتيد معصب العين من مكان بعيد ، وحين فتح عينيه وجد مكانا لا يعرف عنه اي شئ . كل الانظار اتجهت اليك ، والبعض كان يضحك منك ، في حين كانت نظرات اخرى فيها الكثير من الاشفاق عليك . تذكرت "امسترونج" وهو يخطو خطواته الاولى على سطح القمر . وجدت نفسك تشبهه مع فارق ان الاول كان في فضاء منعدم الجاذبية لذلك بدا وكانه يسبح ، في حين كنت انت مشلول القدرة و العزيمة لذلك بدوت و كأنك تغرق . اثارك وجه اوحى لك بشئ ما . اتجهت صوبه . انه البشير . نادل بمقهى . ابيض البشرة ن اشقر الشعر . انسدت في وجهه ابواب الرزق فتاه على وجه البسيطة . وقف للقائك مادا يده قائلا : اكيد انت من الشمال . ذبتما في عناق حار طويل . شد على يديك وهو يقول : انا من الناظور . كنت انت المتحدث . لأنك كنت في حاجة الى من يسمعك بعد تلك الايام الصامتة الطويلة .تحدثت عن كل شئ وهو مصغ بامعان وبعدها قال : - ان كان من شئ ندمت عليه فهو بلا شك اني غادرت المدرسة باكرا . ومن هذه الوجهة فانت افضل مني تعلما ، لكن فيما يخص شؤون الحياة فقد عشت كل شئ . وجربت وذقت ما لم يذقه انسان . لحد استنتجت معه ان ابشع صور التخلق هي حين تتحول لقمة العيش الى جبهة يحاصرك الاخر عبرها . وانطلاقا مما قلته فهل تستمح لي بأن اقدم لك اول نصيحة ؟ تغيرت نظرتك للرجل . سألت نفسك باستنكار : اي عالم احمق هذا الذي اتيت اليه و الذي يصير فيه من هو مثل البشير واعظا يرتئي للناس ما يجب فعله ؟ قلت بتهكم رافضا وصية البشير بشكل ضمني : وما في وسع نصيحتك ان تفيدني اذا كان الاسوء قد حدث ؟ ابتسم البشير وقال : هذا بالضبط ما اردت ان انبهك اليه . تغيرت نظرتك للرجل ... يتبعاحسست بأن شيئا غير محمود العواقب يحوم حولك . وتحول البشير الى ما يشبه منقذ . فقلت وكأنك تستغيث به : هيا ، افصح . ما هذا الذي تريد ان تنبهني اليه ؟ أجاب البشير بهدوء : لا ترهن عمرك بفعل ناتج عن ظرف عابر في حياتك . تنفست الصعداء بعدما بدا ان ما انتابك قبل حين لم يكن مصدره سوى هواجس البشير . اجبت وكأنك كنت تريد استصغار شأن خصم كان يحاول ان يلغيك : أهذه نصيحتك ؟ .. رد البشير بشكل واثق بدا من خلاله مصرا على حشرك في ظل اجواء ضاغطة : بل هو جزء منها . صمت لحظة وقد عاودك الاحساس الذي انتابك قبل حين ، او كأنك كنت تحاول ممنع حبال من الالتفاف حول رقبتك : قبل هذا اخبرني ايها البشير . ماذا في وسع نصيحتك ان تفيدني ؟ رد البشير وكأنه يتلو مقاطع من حوار مكتوب : ستمكنك من تتلمس طريق العودة سالما او بأقل الخسائر . نقلت بصرك الى الطريق التي افضت بك الى حيث انت . هالك الزمن الذي ستدفنه هناك . ومن جديد احسست ان الاغلال قد اطبقت على يديك ورجليك . نظرت فجأة الى البشير وسألته . - أقلت العودة ..؟ عودة من اين و الى اين ؟ ..واقساط عمري التي سأدفنها هنا ، وشرائط عمري التي سأقتطعها والقي بها هنا هل يمكنني ان استعيدها يوم سأرحل من هنا ؟ .. واذا كان ذلك مستحيلا ماذا سأعتبرها ؟ ثمنا لتذكر العودة ؟ و الشرخ الذي سيظل ماثلا داخل يجزئ عمري ، بأي شئ سأرأب صدعه ؟ ... ساد لحظة صمت طويل كان البشير فيها ينفش شاربه و ينظر الى البعيد . لم تعرف فيما كان يفكر فيه .لكنه كان يبدو انه اكبر من تلك البساطة التي يبدو عليها . كما خيل اليك ان عينيه الصغيرتين تستطيع ان تستعيد لحظة نشأة الكون حين ينظر الى الخلف . وانه يرى اشياء لا تراها العيون الاخرى حين يرفع رأسه للأعالي . استدار جهتك اخيرا و قال كمن يصدر امرا : - يجب ان تنسى كل ادوات الاستفهام التي حفظتها في المدرسة . لماذا وكيف هي عدو مثل احساسك اتجاه الزمن . واعلم ان المنطق و التعقل هنا هو اقصر طريق يفضي الى الجنون . هنا يجب ان تلغي كل شئ . سر حيث يسيرون ، وافعل ما يفعلون . ... الاصابة كانت قوية بحجم زلزال . لم يتصاعد منك اي اعتراض . ربما صدق الرجل وطريقته في الحديث كان اكثر تأثيرا مما قاله . تعمق احساسك بالضياع و الخوف من المستقبل . بل ماذا صار المستقبل تلك اللحظة ؟ ..فخاخ وكمائن ... طريق يفضي الى عالم مهجور نبذته الحياة . مستودع او مختبر لزرع الا عطاب و العاهات الداخلية . انتابتك رغبة في ان تنتفض . تتمرد . لكنك لم تعرف ضد من يجب ان توجه ثورتك او تمردك . احسست برغبة في ان ترسم مسارا اخر ومن ثم قلت للبشير : - أتعرف لماذا انا هنا ؟ .... انا لست سائحا او معتوها كره الحياة وجاء للانزواء في هذا الركن الضائع من العالم ليمضي ايامه كما اتفق . أنا هنا لأساهم في بناء اجيال . تصور ان هذا البناء حضر فيه كل شئ وغاب عنه المنتطق ؟ ... سيدي ان عملت بنصيحتك فسأكون قد اجرمت . هممت بالانصراف فجاء صوت البشير حادا صاعقا قائلا : انتظر ... فهمت الان لماذا بعثوا بك الى هنا . عنيد انت اذن . كلمة اخيرة . .. احذر الشرارة التي تحملها داخلك ، فان انت لم تحسن الاستضاءة بها فستتحول الى لهيب حارق ستكون انت اول ضحاياه .
يتبع

No comments: