Saturday, December 23, 2006

رواية الركض خلف السراب

" 2 "
المدينة لم تكن جذابة كما كنت تجدها وانت في غدوك او رواحك اليها . بدوت غريبا عنها . نزلت في محطة " ابي الجنود" . جلت ببصرك تطالع الوجوه لعله يقع على وجه مألوف يخفف عنك تلك الوطاة التي كنت تشعر بها . القيت نظرة على سبورة مواعيد الذهاب الى الدار البيضاء . عز عليك ان تنطلق في الرحلة الحقيقية التي ستقودك الى منفاك دون ان يكون شخص ما في وداعك . طفت الازقة المفضية الى المحطة لعلك تصادف شخص . اي شخص مهما كانت علاقتك بك به بسيطة . كان البحث بلا جدوى . عدت ادراجك الى المحطة ، لكن كان يجب ان يكون في وداعك شخص ما حتى لو كان العقل الالكتروني نفسه. خاب مسعاك . صعدت الناقلة مستسلما لقدرك . وبعدها اسدلت الستار وغصت بعمق في الطريق المؤدية الى المستقبل . لم تدرك كم من زمن استغرقت الرحلة الى البيضاء . كان زمن اخر غير محدد لمعالم هو الذي يصبغ تلك اللحظات . اثناءه كان كل ما مضى يتراءى كالنجوم المتلالئة في اواخر الليل في وداع وتواعد على لقاء في ليل جديد اخر . لكن هل كنت انت حقا تنتظر اشراقة جديدة تنتهي بليل جديد ؟.. الحافلة تلفظك الان في محطة بالبيضاء . هذه المدينة التي تشبه السماء في امتدادها و البحر في عمقها . كل خطوة كنت تخطوها فيها كانت تجعلك تحس كحشرة تقتات من جثة ثور ميت . وكل خطوة كنت تخطوها فيها كانت تجعلك تشعر انك كقزم امام اقدام عملاق متجبر . لكنك مع ذلك صرت تتطلع للوجوه باحثا في ملامحها عن اثر مواسات منها لك . جلست على كرسي هو الاقرب الى الناقلة التي ستحملك طواعية الى حيث تكره الذهاب . المحطة هائجة . قادمون وراحلون في ركض مستمر . الاصوات تختلط بزفير المحركات والمنبهات التي تصاعد من كل جانب . الوحوه تظهر وتختفي من اثر الدخان الذي تنفثه المحركات . وأنت كنت تتامل الجمل الاخضر الذي اخرج لسانه وفتح قوائمه الى اقساها دلالة علىالسرعة . لم تعرف ما الذي شدك الى ذلك الرسم , بل لماذا شبهت نفسك به . ربما لانه بدا لك أنه يجري دونما رغبة ودونما غاية . وربما لأن المطلوب منه هو ان يركض ويركض في محطات ومشاوير لا تعداد لها . كانت الشمس تغيب عندما اقلعت الناقلة ، وبعدها غاصت في الظلمة و المجهول . لكنك كنت داخلها . تشخص ببصرك الى ما وراء النافذة . يرتد بصرك خيبة فتنعكس ملامح وجهك على الزجاج . تستعجل انطفاء الضوء لتخلو الى نفسك وتذوب في تلك اللوحة المشكلة من توقدك الداخلي الذي كان يتحول الىتموجات تمضي في كل السبل . تمضي الخيوط الى ما لا نهاية . تنهار حدود الزمن . الماضي يتعايش مع المستقبل . و الحاضر لا يعني اكثر من مقعد يحمل جثة شخص مهموم ، غارق في رصد انعكاسات قرار اتخذه انسان آلي تهم حياته . لكن بالرغم من ذلك فالليل كان جميلا . اجمل من حلم سعيد مقبل على تعس غارق في النوم ، خصوصا اذا كنت في ناقلة تلتهم المسافات لتفرغك في الصباح في مكان ما . تنتصر مؤقتا على الامكنة ,ويصير الوجود كله مركزا حول ذاتك التي تصير في الصباح ملغية . وبعدها ماذا تفعل ؟ بل ما عساك تفعل ؟ ستضطر الى ان تحرق شيئا ما لتفصل ما مضى عن ما سيمضي مثلما احرق ذلك القائد سفن جنده ليجعل لحياتهم ممر وحيد ينتهي اليها ان ارادوا العيش . لكن بالرغم من ذلك فالليل جميل . لكن كيف يرى الجمل الاخضر الليل وهو يركض ؟ .. ربما لم يسال نفسه . وربما جنبها عناء السؤال . لكن لو كنت مكانه ماذا كنت ستفعل ؟ .. اكيد انك كنت ستركض انما الى الخلف . لكن لماذا يرتبط الماضي دوما بالقداسة و الكمال ؟... الجمل الاخضر لا يهتم بالماضي ، لذلك فهو يركض في اتجاه واحد لا يحيد عنه وكانه هارب من شئ ما قد يكون هو الماضي نفسه. المحطات تتوالى . الركوب و النزول مستمر . سحنات الركاب بدات تتغير . صرت تسمع لهجات غير مالوفة . و انت صار في امكان اي راكب ان يقرأ تعريفك بوضوح على وجهك . بياض بشرتك . شعرك الاشقر . الغربة التي تفصح عنها نظراتك . التعب الذي كان باديا عليك بسب المسافة الطويلة التي كنت قد قطعتها . راكب مسن ينظر اليك و يسألك : الى اين ؟ لم تتردد في القول : الى حيث شاء العقل الالكتروني . يرد عليك الرجل : ومن يكون العقل الالكتروني ؟ ترد بعد لحظة تفكير : قطعة هي مزيج من حديد ولدائن لها مفعول الدومينو. يستغرب الرجل و يسال : وهي التي امرتك بسلك هذا المشوار وانت اطعتها ؟ تهز كتفيك وتجيب : لم يكن امامي خيار آخر . يبدا الرجل في البسملة و الحوقلة فتسأله : ما بك ؟ يرد عليك : لا افهم كيف ان الله جعل قيمة الانسان فوق قيمة الملائكة في حين يصر الانسان نفسه ان يكون اقل قيمة من القطعة الحديدية التي حدثتني عنها . احد الاشخاص ينبهك الى انك في محطة "تالبورجت" لكنك توضح له انك تود النزول في مدينة "اكادير" يرد الرجل عليك : هي ذي اكادير. تلم اشياءك وانت شبه نائم .تنزل من الباب الامامي . تنعشك برودة الصباح . تستدير لتلقي نظرة على الجمل الاخضر الذي بدا انه لا زال مصرا على الركض . وكمثل من غمز بعينيه , بدا وكانه يقول لك : لا تقلق ، سنلتقي كثيرا . تناولت فطورا من غير شهية . بدات تتامل المكان الممتزج بالظلمة . حاولت ان تتصور ما حدث هنا قبل عقدين من الزمن . بحثت عن اثر لذلك الحدث الذي هز المدينة . رأيت فقط الواجهات الفخمة . و الشقق الراقية و الشوارع الواسعة الانيقة بشكل بدا ان ما حدث من قبل ليس سوى مجرد حكاية من حكايات الليل. صرخة لم تستطع تحديد مكانها تطالعك محتجة : كيف تنسى انك حين تسير في اكادير انما تسير على الجثث و الاطراف الادمية وتقول في الاخير ان الامر مثل حكاية ليل ؟ لكنك تشبثت برايك و انت تحتج : و أنا ؟ من احس بالزلزال الذي هزني حين طالعني موقع آسا في الخريطة ؟ .. لا تقلقوا .. كلنا سواء .. كلنا ضحايا لكن لزلازل مختفلة . افضت ببعضنا الى قبور داخل المكان و البعض الاخر الى قبور داخل الزمن . الناقلة التي ستقلك الى مدينة "كلميم" تتوقف الان حيث تركتك الاولى . ومن الوهلة الاولى بدا الامر مختلفا كليا عن رحلة الامس ما عدا شئ واحد . انه الجمل الاخضر ، لكنه كان اكثر ضخامة ولا يبدو عليه انه يهتم بمن يروح او يجيئ . صعدت الادراج . اخترت مكانا . اثارك لباس الركاب شبه الموحد . اللون الازرق . الكوفية السوداء. القامات الطويلة المستقيمة . اللحى الحادة المهندسة باتقان . البشرة السمراء . رائحة النيلة التي كانت تعبق المكان .تركزت حولك العيون الواسعة التي كانت تتحرك بخفة ونشاط لترصد اي شئ يستحق الرصد . وتتبادل البلاغات في صمت ،ثم تتحرك الشفاه من تحت الكوفية لتلو الاستنتاجات . صرت ابتداء من هذه اللحظة "اشليح مولانا" الكلمة الوحيدة التي استطعت التقاطها ، ولأنك سمعتها قبل مجيئك . نفس الشخص الذي لقنها لك أوصاك ان تودع الاشجار حين تبلغ "انزكان" وصرت تودعها غير مصدق ان هناك عالم ليس فيه اشجار . لكن ماذا يعني ان تعيش في عالم ليس فيه اشجار ؟ ..ومتى ستتوقف هذه السلسلة الطويلة التي يتغير فيها كل شئ سوى الوداع ؟ قبل اليوم ودعت الام و الاسرة و الرفاق ومسارح الذكريات . اليوم تودع الاشجار . شئ واحد لم يودعك هو العقل الالكتروني . وشئ واحد لم تودعه هو الجمل الاخضر . تتساءل . أي شئ ستودعه في المحطة المقبلة ؟ واي شئ سيتبقى لك كي تودعه في المحطة التي ستليها ؟ التعب كان باديا عليك . و الانهاك كان قد اخذ مأخذه منك ، ولهذا لم تشرئب بعنقك و لم تتطلع -كما يحدث عادة - الى وجه المدينة التي ابتدات بعبور ذلك القوس المنتصب على شكل باب مجسدا التسمية التي تطلق على المدينة " باب الصحراء" قطعت الناقلة خطا مستقيما يجزئ المدينة الى شطرين غير متساويين . الغربي وقد بدا اكثر انتظاما وحداثة ، و الجزء الشرقي الجنوبي الذي كانت بصمة البداوة لا تزال مطبوعة عليه بوضوح . أحسست بالانقباض و انت تنظر الى البيوت و البنايات . ربما بسبب الطلاء الذي طليت به ، و الذي ذكرك باللون الذي تطلى به السجون عادة . المدينة لا تبدو كبيرة ، بل اقل من المتوسط ، ولذلك بدت لك اكبر من سمعتها . واكثر من هذا فقد كنت قبل ايام قد قرأت عنها استطلاعا يصفها فيه صاحبه بجوهرة مذابة بلهيب الشمس . لكنك ارتأيت ان الامر اذا كان يقتضي الذوبان او الانصهار ، فالأكيد ان الشمس لم يكن لها اي دور . توقفت الناقلة عند منتصف المدينة . الجو كان حارا تشكلت معه شبه سحابة تعلو الامكنة رغم ان الوقت كان صباحا . الازقة كانت فارغة ، و الناس القليلون الذين كانوا يعبرونها كانوا يمشون وهم غارقين في اعماقهم . خطوت خطوات كي يسري الدم في اوصالك . استوقفك منظر شيخ طاعن في السن كان يمسك بخطام جمله ، يابس بذلة محلية حاول من خلالها ان يظهر بمظهر رجل من القرون الماضية . عيناه كانت مثبتة على ابعد نقطة من المسار الذي قطعته بك الناقلة قبل حين . ماذا ينتظر ؟ ..ربما أولئك الباحثين عن تاكيد لتحضرهم من خلال البحث عن اقدم صور للانسان . استقلت سيارة اجرة وطلبت من سائقها ان يذهب بك الى نيابة التعليم . البناية كانت من الطراز الحديث نم على ان الالف و مائتي كيلومتر التي قطعتها لحد تلك اللحظة بات لا يعني اي شئ ، وان انت وجدتها على غير ذلك فذلك مشكلك الخاص . رجل يتحدث بلهجة محلية لم تفقه منها شيئا تحدث اليك بطريقة فضة . وحين تبين له انك لم تفقه شيئا تحدث اليك بلغة اخرى سائلا اياك عن سبب الزيارة . الموظف طمانك على انك كنت محظوظا حين عينت في "آسا" ولم يقذف بك الى "عين لحمار" أو "عوينة تركز". وجدت كلامه مثيرا للضحك و السخط في آن واحد . اذ كيف بعد ان تقطع اكثر من الف ومائتي كيلومتر ناهيك عن المسافة المتبقية يقال لك انك كنت محظوظا ؟ .. اي شئ يحتلف عن اسا او عين لحمار او عوينة تركز او الجحيم ان شئت ؟ أردت ان تدمره . ايس وحده . كل الذين يجلسون على الكراسي خلف المكاتب . كل الذين يقبعون في الغرف المكيفة . كل الذين يتحصنون خلف صفوف ادمية حولوها الى جدران دفاعية لاتقاء غضب وشر من كانوا ضحايا قراراتهم الخاطئة . كل الذين لا يدركون ان تلك الجرة من القلم التي يخطونها مبتسمين وهم في حديث ودي مع زائر بلا موعد تتحول الى اخاديد فوارة تتدفق دما من الروح و الجسد . لكنك لم تفعل . و لأن مشكلك الاضافي انك لن تعرف ابدا الوجه الذي يجب ان تصرخ فيه .. عدت ادراجك من حيث اتيت . متوزعا محتارا بين اسر يختفي خلف صور الرزانة و التعقل ، وضياع ينقمص وجه الحرية . اسد جريح الكبرياء بعد معركة خاسرة ، محتار بين ان يعمق جراحه بمخالبه حتى الموت . وبين ان يجعل للمعركة شطرا ثانيا تكون آلام جراحه الحالية المحرار الذي يحدد المدى الذي يجب ان يبلغه حجم الثأر . لكن في انتظار ذلك يجب ان تتعلم . كيف تصغي السمع للاشياء التي لا تنطق . كيف يلمس هذا الذي لا يرى . كيف يطير و يتمدد . كيف يستقر في البواطن ليضغط الاحشاء و يسودج الاحلام .. سرت دون ان تدري الى اين . وقبالتك تمدد فراغ مهول كان يستدعيك بالحاح للضياع .. لا حت لك فكرة ان تصنع واحة تستريح فيها و تستعيد توازن مركبك المقبل على اعصار عنيف . فكرت في ان تصنع جوا دافئا بلقاء قريب او صديق . ولذلك ركبت الناقلة من جديد اتجاه مدينة "طانطان" رحلة لم تعرف كم استغرقت من الوقت . وربما انك لم تشا ان تهتم بذلك خصوصا بعد ان صار الوقت خصما . هو عمرك . لكن كي تعيش ، كي تحصل على اجر يجب ان تعطي للاخر سنواتك ، لكن ماذا تاخذ ؟ هل ما تأخذه هو مقابل لما اهدرته من طاقة ام تعويضا لسنواتك المسروقة ؟ النصب الذي لاح عند باب المدينة كان هو هذه المرة هو من تطوع للاجابة . النصب هو على شكل جملين يتبادلان القبلة . وتحتهما تمر الطريق الى المدينة . تساءلت . ماذا اراد مبدع هذا النصب ان يقوله ؟ .. لا شك انه اراد القول أن الداخل الى هنا يحتاج الى صبر يوازي صبر جملين ... هو الصبر . مشجاب لكل المستعصيات . ثلاجة لكل الفصول . ..
يتبع

No comments: