Saturday, December 23, 2006

الجحيم الآن


كم سنة مرت به وهو هنا ؟.. و أي شئ مهول ذاك الذي كان ثمنه أحلى سنوات عمره ..؟ حلم سرمدي أم سراب خادع ؟..وهم تستر بجلاليب الواقع أم حقيقة شقت طريق المستحيل ؟ يتساءل , يمارس وظيفته الوحيدة التي امتهنها منذ عقود خلت , والمقرونة دوما بقياس مختلف المسافات لأبعاد المكان. وحدة القياس تختلف كل مرة .فحينا تكون خطوة قد تطول أو تقصر ,واخرى انامله او راحة يده و أخرى باطن قدمه ..عملياته تلك جعلته على دراية تامة بأدق تفاصيل المكان دونما حاجة الى الكوة الضيقة المنتصبة في أعلى الجحر , و التي ان كانت قد ضنت عليه بالنور , فقد جادت عليه بالبرودة او الحرارة والحشرات .و مع ذلك فقد كان لهذه الأشياء دورا مهما . فعلى الأقل كانت تمكنه من معرفة تعاقب الفصول في العالم الخارجي .لكن ماذا يجديه ذلك ان كان عمره بشطريه المنصرم والمتبقى قد صودرا منه . و أنه يعيش فيما يعيش أياما و سنوات مزيفة . ؟صوت مرتل سورة الكهف يأتيه خافتا على غير عادته و يقطع حبل تفكيره. من المخطئ ؟..لقد واظب هذا المرتل على ترتيل هذه السورة في نفس التوقيت من صبيحة كل يوم جمعة على امتادا عشرين سنة . لكن في تلك اللحظة لم يكن قد انقضى أسبوع بكامله على ترتيل المرة الأخيرة .. ينتابه الشك ..ينادي زميلا له في جحر مجاور .يكرر النداء ثانية وثالثة ورابعة .. تنطلق صيحات التأبين من جحور متفاوتة البعد . يقرفص تحت الكوة و يخترق نفقا مداه عشرين سنة من الظلمة و الرهبة والخوف .يعبره السؤال . كم كانوا في البداية و كم صاروا الآن ؟.... انه يستطيع أن يتذكر بتجل تام أن الرحلة كانت في بدايتها مغرية .. رياح المد كانت تعصف بقوة تجاه الشطآن . كان من السباقين الذين جروا الى هناك . ابهرته الامواج العاتية . كانت مختلفة تلك المرة , فيها مزيج من الألوان و ان كان الأحمر يغلب عليها .اقتربوا أكثر ..شدتهم اليها .. أمعنوا النظر ..رأوا على بسائطها انعكاسات لصور شتى .أطفالا متحلقين حول صحون فارغة ..سلاليم بلا أدراج..راكضين اتجاه خطوط وهمية .. لمس الموج , تحول الى بساط , ركبه . لم يكن وحده .رجالا عتاة كانوا ... في عيونهم أمل وعلى محياهم عزم واصرار وفي جوفهم ظمأ راكمته الدهور . انطلقوا مع الموج الكاسح . مجالات كثيرة اخترقوها ..قلاع وحصون ..حدران وأسلاك..جميعها تهاوت وتلاشت . وفي غمرة الزحف انفتحت أفواه أسطورية انصبوا داخلها مع الموج ليقطعوا رحلة امتد مسارها عبر تقاطع الوجود و العدم ليفرغوا في النهاية في صقع لم يكونوا وحدهم من جهلوا موقعه . أشياء مريعة مرت بهم في رحلتهم .سئلوا أشياء كثيرة ..عن علاقتهم بالبحر ..عن اجتياح الموج للقلاع والقماقم ..لم يجيبوا بشئ لأنهم لم يعرفوا من كان السباق لعشق الآخر هم أم البحر ؟ صيحات التأبين تقطع حبل تفكيره من جديد ..سقط مرتل سورة الكهف ..وقف ينظر الى انهيار تحصينات ما عادت قادرة على الصمود في وجه سؤال ملح .. ماذا يفعا المقاتل حين يصاب في معركة ؟...هل ينزوي لركن آمن يضمد فيه جراحه و يتحسس المنفذ الذي قد يتسرب عبره الموت أم يتابع القتال بضراوة و شراسة بلا مثيل ..؟ هل يتمكن منه نداء الحياة ويسحبه الى الخلف حيث وجوه يحبها تقف في انتظار عودته أم أن الاحساس بالألم يحوله الى ثور هائج يدفعه باصرار نحو متاريس عدوه باحثا عن طلقة رحمة ..؟أي النوعين هو اذن ..؟ يتوقف عند منتصف الجحر شاخصا ببصره في الجدران ... قلبه يخفق بشدة ..أنفاسه تتلاحق بسرعة .. دماؤه تفور . ثور هائج هو اذن . أين ماتريس عدوه ؟؟.. انها تبدأمن هنا , من هذا الجدار . يتجه صوبه , يهوي عليه بملء يديه , يضرب ويضرب ويضرب .. تخور قواه , ينهار ملتصقا بالجدار و يردد بلوعة .. ارجوكم .افتحوا أبواب الجحيم كي ألقي بنفسي فيه ... افتحوا أبواب الجحيم كي أنصهر في حممه .. افتحوا .. افتحوا .. افتحوا .. صوت قوي يأتيه عبر الكوة. آسفون .. لم نبخل عليك بشئ .. ليس لدينا أكثر مما أنت فيه الآن .. انك في أعلى مراتب الجحيم .


عبد الله البقالي

No comments: