Saturday, December 23, 2006

الأصوات الداخلية


أحكم قبضة يده على عنقه حتى جحظت عيناه . أزاح كفه مدة ثم عاود الضغط . دمعت عيناه وصار وجهه قانيا . ارخى القبضة من جديد . وضع رأسه على المنضدة و سكن مبحرا بين لجات دواخله الدفينة .في استرجاعه للمنعطفات الكثيرة داخل رحلة عمره ، يجد أنه كان دوما يركب تحديات خاسرة انتهت به الى الانحصار في زوايا ضيقة حادة في وقت كان يمكن ان ينتهي الى آفاق واسعة غير محدودة .هو لا يستطيع ان يزعم أن ذلك كان ترجمة لقناعة متجذرة . بل يقر أن الورطات التي كان دوما على موعد معها هي نتيجة توجيهات مستشار تمظهر بمظهر الحاذق العارف ، لكنه كان يختفي كليا ساعة دفعه لثمن الفواتير الضخمة المترتبة عن فتاويه الخائبة . ورغم حقده الدفين عليه و رأيه المعروف فيه فكل شئ كان يتغير فجأة .لا يعرف من اين ينبعث في تلك اللحظات اللعينة . و لا كيف يوت القدرة و الاستطاعة فيمسح بنتهى اليسر كل ما ترسب لديه بصدده . فيعطل تفكيره ، ولا يسمع و لا يستحسن الا ما يشير به عليه .ذلك المستشار الخائب المحبط لتطلعاته ليس بانسان غريب عنه . بل ليس له من وجود خارج تفكيره . يتغذى بما يتغذى به هو . و ينشغل بالافكار تفسها التي تعبر ذهنه . قرر في الاخير التخلص منه عبر خنق صوته الآخر اذي يحمل كامل المسؤولية في كل النكسات التي عصفت به .في البدء تصور ان الأمر في غاية البساطة ما دام انه يعرف الصوت الذي يجب ان يخرسه . انطلق من افتراض أن صوت الرزانة هو ما يجب الانتصار له ، اذ ارتأى أنه القادر على حل كل المعضلات و بناء جسور التواصل مع الآخر . غير ان افكارا لم يشك في انها كانت بايعاز من صوته الآخر داهنته منبهة الى ان التواصل الحقيقي المطلوب يجب ان يكون منفتحا على الحياة و ليس على طرف من أطرافها . ولذا فالشريعة الوحيدة الممكن الاحتكام اليها ، هي تلك التي لها القدرة على معانقة الصيرورة . و أنه ما من سبيل للموضوعية لباحث يعتقد أن للأزمنة جد يظل جدا ، و أن الحقب التي تليه مهما تطورت فهي مجرد احفاد طائشين يفتقرون دوما لحكمة الكهل .مؤاخذات الصوت الثاني جعلته في حيرة . ما الصوت المستهدف ؟ ... ما الرزانة ؟... ما الطيش ؟.. ما التعقل ؟... من المذنب ؟ ... كيف يعرف أنه كذلك ؟ من قاده الى المستنقع الجاثم عليه ؟ الصوت الذي يجنح الى اخفاء معالمه الخاصة أم ذلك الذي يعشق التحليق فوق الفضاءات المحظورة ؟وجد نفسه في حاجة الى وسيلة لم يسبق ان جربها انسان على نفسه . صار مفتقرا الى وسيلة هي أشبه بميزان أو قياس تمكن موضوعيته ان تمدد و تتمركز على المدى الفاصل بين الصوتين ومن ثم يتمكن من نصب كمائن يتعرف من خلالها على طوية كل صوت . لكن هل يمكن ان يجعل الأشلاء التي تكونه في غفلة عن ما يخطط له ؟اقتنع باستحالة الأمر . و تأكد من ان لا الحاضر و لا المستقبل يمكن ان تكون مجالا للاختبار . و أنه في حل كهذا لا يمكن أن يعتمد على شئ آخر سوى قدرته على استرجاع كل الجدالات الني دارت بين الأصوات المتحدثة بأبجديته الخاصة حول القضايا التي عاشها من قبل .بدأ بأكبر انعطاف له في حياته . مسألة زواجه . هي قضية كان فيها سجال طويل امتد لسنوات . الأصوات الداخلية فيه كانت واضحة جدا . و بالرغم من مرور كل هذه السنين فلا يزال صداها مسموعا بقوة داخله .لم تكن لديه فكرة محددة حين تعرف عليها . اعتبرها رقما داخل سلسلته مثلما اعتقد انه مجرد رقم داخل سلسلتها . في علاقته بها صنع واحات كثيرة داخل مجاله الشاحب الذي يهيمن عليه الشحوب . و لأن حياته كانت تجعل كل الأماكن مجرد بساط متحرك لانسان يسكن الرحيل ، فقد حاول معها أن يصل الى آخر مشاوير المتعة . الا أنه اكتشف في نهاية الرحلة أنه لم يكن يعش نهاية مشوار ، بل نهاية مسار بأكمله . و أنه ينعطف بدرجة كبيرة الى مرحلة جديدة ستقضم الفيافي فيها قسطا كبيرا من عمره . وفي لحظة من لحظات شروده فاتحها بالزواج .لم تمانع ... بل صرحت انها كادت تيأس منه لطول انتظارها سماعها العرض . تزحزح شئ ما داخله . نواة رفض غامض فجرت كيانها وانطلقت منتشرة في كل الاتجاهات مستقطبة كل الخلايا لوأد مشروعه الذي لن يكون غير أسوار يحول بينها و بين التجدد.صوته الوليد كان يرى ان زواجه ليس سوى زج بالنفس في عالم لن تعثر فيه سوى على حطامها . وحجته ان مكونات شخصه لها ميل فطري للفوضى أكثر مما لديها من استعداد للانضباط و التنميط .و بالتالي فالجنوح الى المغامرة و ارتياد الآفاق و المساحات الحرة ونسج العلاقات و البحث عن اللذة و الحكايات هو الفضاء الوحيد الذي تجد فيه النفس أنشودتها .الصوت الوليد لم يستصغ أن تحكم العين بان تنظر و الى الأبد الى وجه وحيد ، و ان تتحول الى ما يشبه مجهر محكوم بان يرصد ميلاد القسمات و الشيب و كل ما يبشر بميلاد الموت في وقت يمتلئ المحيط بالحياة و القدرة اللامحدودة على التجدد المستمر .الصوت الثاني كان ضعيفا . بل لم يكن مسموعا بالمرة . ربما كان يعد للأمر عدته مدركا أنه لا يمكن أن يجاري الصوت الوليد في عدوه . و ان عليه ان يدخر قواه لخوض جدال قد يمتد لآخر العمر .ناور طويلا . و انتظر هفوات الصوت الآخر كي يضخم ترسانة الحجج لديه من أجل ان يجهز عليه في الوقت المناسب .الصوت الذي يسميه رزينا من باب التميز لا غير كان يتحفظ على نسج علاقات بناء على وعود كاذبة. وهو مخلص لعذرية استقاها من لحظات تنشئته و الاعمال الفنية التي اطلع عليها ومن وقائع يعتقد ان لا علاقة لها بالخيال . في غرامياته التي عاشها من قبل قبل تمرد الصوت الآخر كان يعتقد أن معشوقاته التي عبرن قلبه كن من صنف آخر غير البشر . و انه لم يكن لديهن أعضاء تناسلية . كما انه لم يجرؤ على لقاء من أحبهن . و اللحظات القليلة التي فعل فيها ذلك ، أكتشف أنه كان يحاول زرع ارواح في تماثيل .حين قرر الصوت الوليد انهاء علاقته بها لم يتحرك الصوت الرزين . و حين كان يقرا رسائلها و يعيد اغلاقها بعناية ثم يشطب على العنوان ويعيد ارسالها لم يتحرك ايضا . لكنه في الوقت المناسب أقام له محاكمة رهيبة ....

ـــــــــــ


عبد الله البقالي


No comments: