Saturday, December 23, 2006

بوصلتي الجديدة



منذ زمن صار بيني وبين القلم جفاء . وأثناءه صار كل واحد منا ينظر للآخر بنوع من الرياء . اتهامات ضمنية كنا نتبادلها في صمت . هو مثلا ربما يتوهم أني أحمله مسؤولية غارات على مجالات سرية يمنع التحليق فوقها , وأنا كنت أسمح لنفسي كي تعتقد أن قلمي هو مقاتل باعد الزمن بينه وبين إنجازات ما عاد أحد يذكرها ، إلا أن الأمر بعد كل هذا لم يصل حد الطيعة .هي إذن حالة تعيشها كل الأقلام التي تبحث عن الجديد . وإلا فإن الكتابة بدون توقف لا ينتج عنها غير تكرار نفس المشاهد و لا تتغير فيها سوى الألوان ...ربما قلمي لا يدرك شيئا مهما . وأظن أنه سيتجاوز كل الحواجز والعوائق التي تفصل بيننا بمجرد أن يعرف السبب . ومن تم سيدرك أن اتهامي بكوني جعلته عرضة للعطالة لم يكن صحيحا .التوقف الذي كان هو شبيه بالفاصل بين الضياء والظلمة الذي عاشته شهرزاد في رحلتها العسيرة رحلة إبعاد المسكين عن شرايين التنفس والدماء. .هو توقف لم يكن مرتبطا بكسل أو الافتقار لمواضيع بل إن كثرة المواضيع وتسارع وثيرة تطور الحياة وفظاعة غرابة المفارقات قد استدعى الاعتماد على بوصلة جديدة .بوصلتي القديمة لا زالت معي . لكن تسارع وثيرة الحياة جعل عقربها يبدو وكأنه يحمل كل عبء السنين التي انصرمت ، وبطؤها جعلها غير قادرة على مواكبة سرعة الأحداث .... الانتساب للعصر ولو من خلال المظهر يتطلب الاعتماد على بوصلة جديدة ، وذلك ما حاولت فعله.لا يمكن بأي حال المقارنة بوصلتي الجديدة بالقديمة . القديمة تبدو كمنتوج لصناعة سوفيتية صلبة ولكن بلا مظهر ولا رقة . ولهذا فهي كأي محارب، لا يحسن إلا التذكر بالرغم من أنه يبدو صلبا .البوصلة الجديدة مثل شباب هذا اليوم ، لا يهمه سوى الإيقاع . زجاجها لامع براق ، وعقربها يشبه خطى مراهقة وهي تسير إلى موعدها الأول في أصيل ربيعي .إطارها فخم يشد الأنظار.لكن مشكلتها بل مشكلتي أنها لا تحسن تحديد الاتجاهات ويختلط عليها كل شئ . هي دوما تشير إلى الغرب ، لكن لم يساورني شك في أن مرد ذلك يعود إلى خطأ اقترفه صانعها ، لكني بشكل ما وجدت نفسي عكس عادتي لا أعير للأمر أهمية جمال بوصلتي الجديدة جعلني أتغلب على الغاية من اقتنائها ، وافتتاني بها جعلني أزجر نفسي حين ساءلتني عن الجدوى من اقتنائها . أقنعت من عرفوا دقة بوصلتي القديمة أن للجديدة مواصفات تفوق ما كان للقديمة من مزايا. وأضفت إلى ذلك مهارات لا وجود لها إلا في خيالي . لكن والحقيقة أعترف أن للبوصلة الجديدة فعالية مدهشة حقا . هي تستطيع أن تفصلك عن كل ما حولك ، فلا تفكر إلا فيما يخصك لوحدك ، وهي توصد كل الأبواب والمنافذ دونك لحد لا تجد معانات الآخرين لديك أي صدى، وهي أكثر من هذا ، تستطيع أن تعدل من مزاجك حين تكتئب ، وتقنعك أن معاناة الآخرين هي نتيجة متوقعة لتقصيرهم في حقهم وتفهمك أن اهتزاز ضميرك لا يرجع سببه إلى أن الأمور لا تسير على ما يرام بل مرده إلى عينيك المفتوحتين أكثر مما يلزم . وتشير عليك دوما بتغيير اتجاه سيرك لتجنب مشاهد لا يمكن أن تزرع في النفس غير الإحباط . مزايا بوصلتي الجديدة لا تتوقف عند الحدود المرئية للعين ، بل هي عميقة جدا لحد لا يمكن لأي كان أن يحصر المدى الذي يمكن أن يبلغه تأثيرها داخل الأعماق الدفينة للنفس الإنسانية .من مدة انتبهت إلى أني لم أعد أميز بين الأشياء . و الأنساب و الألقاب والصفات وأصول القرب والبعد لم تعد تعني لي أي شيء . ما عاد مهما هو أنا . نعم أنا . تلك الكلمة الفخمة دوما .بتأثير سحري وجدت نسي أحطم بوصلتي الجديدة . لم يكن الأمر عسيرا مادام أن مقاومتها للرجات ضعيفة . لكن ما أدهشني حقا هو أن عقرب بوصلتي القديمة قد استعاد عافيته ، وتحرك بكل خفة ليبرز لي أي اتجاه أقف فيه أنا الآن ... غير أن تساؤلات مثيرة تبادر لذهني . هل أنا قديم ؟ وهل القديم صار الانتساب للإنسان والجديد صار الانتساب لما بعد الإنسان ؟ لم اجب بشيء ، إذ لازلت حائرا لكن ما أدهشني حقا هو التجاوب بين قلمي وبوصلتي القديمة .
عبد الله البقالي
ـ ـ

No comments: