Tuesday, December 26, 2006

السنيما


أتعرف ماذا كان يعني في تلك الطفولة البعيدة أن تسمع الاطفال يتصايحون وهم يركضون على ذلك الشارع المآكل ..السوليما..السوليما ..السوليما ؟لقد كان يعني أن يدا تمتد من الغيب لتبطق بمنتهى القوة على تلك الرتابة المهيمنة على الحياة في القرية . ومن غبارها المتصاعد ، يتشكل جسر متين يمتد الينا الى ذلك الصقع القصي من العالم ليربطنا به .فنغوص للحظات بعيدا عن حياة الشقاء المصرة على تلوين الحياة بكل الالوان القاتمة. ونسترخي منتظرين أن تدب الحرارة في أحاسيسنا المحنطة ، وندعوها كي تلتقط بتركيز بالغ كل ما سيتناهى اليها بعد حين من أصوات وصور وأحاسيس لتختزنها بعناية ،و لتعيش عليها شهورا أو سنوات و تلجأ اليها كلما ازدادت الحياة قتامة .هكذا كنا نترك أي شئ مهما تكن العواقب ونجري منجذبين بذلك الصوت الهائل المنبعث من مكبر ضخم مثبت على السيارة التي كانت تجوب الاحياء داعية الى حضور السهرة .مشكلين قافلة من الاطفال تلاحق االسيارة أينما حلت .لم نكن وحدنا من يفعل ذلك . حتى الكبار كانوا يجرون ، لكنهم كانوا يقومون بذلك فقط في الطرقات الفرعية التي تنتهي بالاطلالة على الشارع الكبير .ولم يكونوا ليجرؤوا على الركض خلف السيارة مباشرة ، الا اننا مع ذلك كنا نحس أنهم يشاركوننا الركض .وحتى لو فعلوا ، فلم يكن الامر ليثير استغرابا . فحدث مثل السينيما كفيل بتهميش كل شئ بما في ذلك الصراع المتوارث مع الغرباء أبناء الجنود المقيقمين في الثكنة العسكرية التي كانت من قبل حصنا للجيوش الفرنسية . اذ في مناسبة كهذه يستطيعون دخول الاحياء دون خوف من أن يعترضهم أحد.احساس مفعم بالسلم و الامن يلف القرية وهي تفتح رئتيها لتتنفس بعمق ، وليدب في أوصالها هواء طري . لحظة تسبق ميلاد قصص وحكايات يحكيها أناس يقفزون فجأة الى الواجهة ، يصنع تألقهم قدرتهم الفائقة على رسم الذهول و الاندهاش على ملامحنا عبر حكاياتهم لأبطال افلام شاهدوها في اماكن لانعرفها .يبدأ العد للعرض ، وفي انتظار ذلك نقوم برصد كل كبيرة و صغيرة ، ابتداء بالتعرف على المكان ومتابعة نصب الشاشة الكبيرة ، الى تشغيل المحرك الذي يمد آلات العرض بالطاقة .لكن أروع الصور كانت أن تنظر من بعيد الى تلك الشاشة الضخمة المؤطرة بحواشي سوداء . كثيرون كانت تبدو لهم بيضاء ، لكننا لم نكن نجدها كذلك .كانت رحما يعبد الطريق الى الصيرورة . دعوة لتعريةالخرافات وتجريد " الغول" من جبروته الذي طالما أخرس احتجاجات طفولة على عقم محيط لم يمنح لها مكانا فيه .اكسيرا ينفجر عبر المسام ويفتح للجسدا معبرا كي لا يختنق.يبدأ العرض . ننطلق مغادرين المكان و الزمان مخترقين مسارات تستدعينا بالحاح لنجوب مجاهلها . مكتشفين عبر كل لمسة حنونة او همسة موحية ان الحياة ليست عدا تنازليا ينتهي بالموت فقط . بل هي سكة يعبرها على عجل قطار مثقل بترسبات احلام مثقلة بهدم التباين.رحلة طويلة لم يكن يستردنا منها سوى ان تتخذ الشاشة لونا ابيض . لكننا كنا نظل مسمرين في اماكننا متمنين لو يستمر العرض ممتدا لآخر العمر .نغادرنا الاماكن ، يمضي كل واحد في سبيله ، لكننا بشكل ما كنا نجد انفسنا نمضي في مسار واحد يفضي بنا الى اسئلة لم نكن نجد ما نداري بها مرارتها سوى كوننا كنا لا نزال نستطيع ان نحلم .حلم مصدر دفء لأجسام تتخبط في صقع حتاج الى الكثير من الحرارة كي تدب فيه الحياة .الأن وانا انظر الى هذه الوقائع التي تئن تحت حمل ثقيل من الوقائع التي تراكت فوقها في الذاكرة يهولني التحول المورع الذي تلاحق بسرعة.الناس تساءلوا لم لم تعد السينيما . لكنهم الان يدركون ان الرحاب تحولت الى شاشة كبيرة . و الاحياء الذين يجوبونها تحولوا الى ممثلين يؤدون أدوارا متفاوتة الاهمية ، تحضر فيها كل انواع المهارة و الفنية و يغيب فيهاالشئ الاساسي في الانسان زحف يتقدم كل يوم مساحة كتقدم اعصار ، ليجتث كل ما يرتفع من الارض ولا يخلف غير الدمار .شلال ينسكب في دواخلنا . في انحداره يجرف كل شئ . ويخلف هياكل بلا بصيرة .فهل لنا اليوم ما نتحصن به من هذه السينيما غير أحاسيس ايام السوليما؟
عبد الله البقالي

No comments: