Tuesday, December 26, 2006

حوارية وطن مبتور .. لصخب الثورات


هناك اعمال نتوقف لدى تعاطينا معها عند الحدود التي يرسمها النص ، وكل محاولة لتوسيع مداها او الحد منها لا تتعدى ان تكون تحميل ما لا يحتمل او بتر ما لا يقبل البتر . غير انه بالمقابل هناك نصوص لا نستطيع حصر المدى الذي تغطيه و تتوقف عنده ، بل ان النص الابداعي قد يتحول بشكل ضمني الى نقد طافح بالسخرية من الناقد نفسه و رؤيته المحدودة و قدرته المتواضعة وعجزه عن التعامل مع نص هو بالتاكيد اكبر منه ، فيدفعه عجزه الى التعسف و اصدار الاحكام و التقييمات الجاهزة . كما ان حياد الناقد و موضوعيته قد لا تصمد امام الاتجاه الفكري لصاحب النص خصوصا حين يتعارض كليا مع اتجاه الناقد . فلا نقرأ انذاك سوى ما يشبه توصيات لشخص نصب نفسه وكيلا عن الابداع و وسيطا بينه و بين المعرفة و الناس . مثال ما اقول هو نص " حوارية وطن مبتور ..حبا "لصاحبته "صخب الثورات " وهو من النصوص المهمة التي طرحت سابقا بمنتدى النقد الادبي . وما اهله ليحتل هذه المكانة هو بلا شك حساسية التجربة التي اتخذها كموضوع و الاشكال التعبيرية التي اتخذها كوعاء . وقد زاد الظرف للموضوع اهمية باعتباره عالج احداثا لم تنته فصولها بعد . وهذا ما جعل من تعاملوا مع النص سواء الذين عبروا عن مواقف ايجابية او الذين طبع موقفهم التحفظ و حتى الارتياب بحساسية . ولعل ذلك قد تحكم فيه عاملان . الاول : ان النص طويل جدا وهو ما يدفع الى الاعتقاد ان من قرأوه الى النهاية لا يتعدون رؤوس الاصابع . وحتى من انهوا قراءته فهم لم يتعدوا القراءة الاولى ، و بالتالي فجل الذين استحسنوا النص انما استحسنوا في الحقيقة الموقف السياسي للكاتبة من نظام بلدها الذي كان له امتدادات تعدت الحدود الوطنية . الثاني : ان الذين تبنوا موقفا سلبيا من النص هم بالتأكيد انطلقوا بدورهم من موقف مما كان يجري على الساحة او مما كان يتهيا تلك اللحظة من احداث . و هكذا فقد ذهبوا الى ان النص لم يكن بريئا وبهذا الشكل فالتقييم في جل الحالات لم ينطلق من النص و لم يرتكز عليه . وبذلك نجد ان النص كان ضحية مرتين . الا انه بالرغم من هذا التعاطي فقد حققت الكاتبة اكثر مما كانت تهدف اليه . ذلك انها وكما هو واضح في المقدمة انها لم تكن تريد غير الوفاء بوعد قطعته وهو ان تنقل تجربة اخيها "كريم" بنقل معاناته الينا ليقف عليها الجميع . لكنها بالاضافة الى تحقيقها لذلك فقد كشفت عن عمق ازمة تنخر كيان النقد او التعاطي البعيد عن الموضوعية من قبل المتلقي . ولعل هذه النقطة بالذات تجعلنا نتفهم لماذا يصر عدد غير قليل من الكتاب على توقيع انتاجاتهم الفكرية بأسماء مستعارة . وهذا بطبيعة الحال ليس بدوافع امنية ،بل بحثا عن حيادية وموضوعية المتلقي الذي صار التعامل معه اكثر تعقيدا خصوصا اذا اكان هذا المتلقي له انشغالات تتعدى المجال الادبي الى غيرها من المجالات الاجتماعية و السياسية . اقول هذا و اعود الى النص " حوارية وطن مبتور...حبا " و اوضح ان الكثير و لا شك قد تساءلوا اثناء و بعد قراءة النص عن المدلول الذي قد تعنيه "الموضوعية " في التعاطي مع نص أدبي لا يختلف مع توجهات المتلقي فحسب ، بل قد يصنف فيمن يقف في الواجهة الاخرى المعاكسة كليا ..؟ كما قد يتساءل عن ما قد يعنيه الحياد الذي سيراه يتفسخ امام عينيه و لا يصير بذلك يعني غير غض الطرف و المهادنة ... هل ذلك يعبر عن موقف سليم ؟ .. هل هو بريئ ؟.. هل هو مشروع ما دام الادب كما هو اوضح في النص مجال اوسع ومنفتح على الحياة و كل ما يحدث فيها ، و ان كل شئ يصير موضوعا له حين نجده في نص ؟..

هي حقا حوارية . اطرافها متعددة لكنها كحكومة بموقعين متضادين . ومهما كانت بذلك السواد و تلك الحلكة فالحوارية في النهاية تعني ان هناك جدلا و ان هناك طرفان و ان الحياة مستمرة ، اون كان احد طرفيها هو السائد فلوقت محدد فقط .وكما في مقدمة النص فالمعجم ان حاولنا حصره فسنقف عند تضادات وتقابلات وهي ان كانت تدمي القلب وتحبس الانفاس و تضغط الصدور فهي في النهاية واعدة بتحقيق النقيض . فالموت يقابله الوجود . و الرحيل يقابله البقاء . و الخوف يقابله الفرح ، و الجوع في مواجهة الشبع ...مسافات هندست باتقان زادها نزقا وحياة ذلك الفيض الوجداني الساخن الذي يجعل المتلقي ينسى انه امام مشاهد من الذاكرة . القدرة على الاسترجاع و الضبط الدقيق لأدق خلجات نفس انسانية مر هفة ، و اللغة العالية تجعل المتلقي ينسى وجوده حيث هو ويحسب انه في عمق الحدث حتى انه يسمع صفير السياط وهي تشق العنان في طريقها الى اجساد مترهلة ، كما يتناهى اليه الاصوات الخشنة للحراس وهم يسبون ويشتمون و يلعنون . و البصر ينفتح ليصير بامكانه ان يرى الاجساد المنهكة التي افناها الجوع و القمع و الاسر ، كما يمكنه ان يتابع النظرات الزائغة لوحوش آدمية لها شهية للافتراس لا حد لها .قدرة أي كاتب و احترافيته تظهر من خلال مقدرته على اسر المتلقي من خلال الجمل الأولى لما يكتبه . و بالعودة الى النص الاول من هذه الحوارية نجد أن الكاتبة قد نجحت في ذلك الى حد بعيد . فاللمسة الاحترافية قد بدت واضحة من خلال الانتقاء الدقيق لنقطة البداية . ذلك أن النص لم يراعي التسلسل الميكانيكي وتلسله كما يحدث في الواقع . بل انه يبدأ من نقطة متقدمة لتأتي باقي الجزئيات السابقة عن نقطة البداية ضمن سياق تطور الاحداث ، وليترك لذهن الممتلقي اعادة ترتيب الحدث بالشكل المألوف كما يحدث في الواقع . الا ان النص لم يتضمن هذه النقطة فحسب ، بل ان الكاتبة فتحت نافذة هي اشبه بخلاصة نظرية التي ستأتي الاحداث كتجسيد وتفسير لها وهذا مدخل جيد للنص اذ سيتحول كنوع من التفسير ويقوي الربط بين مقدمة النص وباقي اجزائه .نقف في البداية مع "كريم" أول شخصية من هذه الحوارية . ونقف قبل هذا مع المبرر الذي دفع الكاتبة لنقل هذه الوقائع . ووهو كما تصوره الكاتبة هو مجرد الوفاء للالتزام قطعته على نفسها . غير اننا ودون ان نمضي للنهاية نجد هذا المبرر ضعيفا مقارنة مع دوافع الكاتبة الذاتية وموقفها القوي مما يجري و الذي لا يعرف الحياد مما يجري على ارض الواقع . و بالتالي فالحديث عن هذا الوعد لا اجده أكثر من ةطرقة لتقديم هذه الشخصية .أول ما تعالجه الكاتبة هو علاقتها بكريم . و بالشكل الذي قدمته فهي وهو كائنا واحدا اشبه بعلاقة القشرة باللب او الغطاء بالجوهر .وبهذه الكيفية ، ومن اجل اعطاء العامل الخارجي صورته البشعة ترسم المسافات المتباعدة ليظهر وقع التفريق و الابعاد كفعل تعسفي ضد طبيعة الحياة التي كانت تقتضي التوحد عوض الابعاد .. وبهذا الشكل يصير الاخر ضد الحياة .بعد ان ترسم الكاتبة هذا الوضع تنتقل الى لرسم طبيعة اخرى اكثر هولا من الاولى . وبشاعة الاخر تظهر بشكل جلي عندما يملك الاخر سلطة او جاه ، وحين لا يصير هاجسه سوى المحافظة على استمرار سلطته . أنذاك يتضح موقفه العميق من الحياة و من الاحياء على السواء . ولكي تظهر هذا الجانب اكثر فقد عمدت الكاتبة الى رسم تضادات ومسافات من خلال تقسيم واقع الى لوحات تبدو منفصلة الواحدة عن الاخرى الا انها في النهاية تصنع فضاء مكتملا ..لا شك ان الموروث العالمي للانسانية جمعاء كان ولا يزال يحث على انه عند نشوب نزاعات فيجب ان يوضع الاطفال و النساء و الشيوخ خارج النزاع . و وةلا شك ايضا ان من يتخطى هذه القاعدة يجعل نفسه في مكان المعادي للانسانية جمعاء . وبهذا الشكل فقد استطاعت الكاتبة ان تنزع الطبيعة الانسانية عن الاخر بل وان ترقى بالنص من عمل يشجب ممارسات في ارض جغرافية محددة الى وضع شمولي يهم الانسانية جمعاء ..لنتوقف عند هذه الصورة . " ... السجن و النساء وخلفه اسواره احياء ينتظرون .. وحرس هاهنا يزمجرون كحيوانات مخصبة غاضبة ... " " اتدافع مع النسوة علني اصل ...ولكن عبثا ... نصحتني أمي بأن أضع شيئا ما على رأسي لكي أتقي نظرات الحرس القذرين .."هنا باسم الحب يمارس كل شئ . اشكال حقيقي لا يمكن الحسم فيه . حوارية كل واحد يقرأها بمفاتيحه الخاصة . الحاكم يحب السلطة . ومن أجل السلطة هو مستعد أن يدوس كل شئ . وبالمقابل يقف حب اخر في كجابهته ، لكنه الاقدر على ان يستمر في الحياة . لا حب أقدس و أغلى من حب أم لفلذات كبدها . وحين يحول الاخر بين تواصل اطراف هذا الحب يصير عدوا للحياة ، ولا يمكن ان يستمر الا بكائنات مخصبة مهددة بالانقراض . و بالتالي فالزوال مصيرها .الكاتبة بوصف دقيق جعل ما هو خارجي عمقا لما هو داخلي ، وما هو داخلي عمقا لما هو خارجي ، وهي بذلك استطاعت أن تجعل القارئ يعيش الورطة بكل تفاصيلها بحيث بدا الزمن بطيئا ذو وقع صاعق . وعلامات الاستفهام ما لبثت ترتفع مع كل جملة حول كل شئ . و المصائر القاتمة لاحت مع كل مقطع لحد ينتاب احساس بأن المشهد هو في احد درو النخاسة وان الكائنات التي تتحرك هي اشبه بأولئك العبيد الذين يدورون في حلقة قبالة سيد يجلس قبالتهم في شرفة يقوم باختيار الذين يسمون خطأ بآدميين سيقوم بامتلاكهم بعد شرائهم من النخاس .الكاتبة كانت تصل قمتها حين خلال تصوير لحظات المصادمة بينها وبين احد الحراس . ويتحول التأثير الذي يحدثه في الداخل الى تصوير رائع حين يجد المتلقي نفسه امام ذلك الاقلاع الفجائي حين تنقل الكاتبة من المحسوس الى المجرد .." أدخلني غرفة الضابط ..كانت لحظات من الزمن تتوالد بالثواني دون ان تنجب شيئا ... لحظات عقم نتجت عن فساد ...قلبي..ينبض بألف آه ... و الشهادة حاضرة في طرف لساني .." .." وقلبي يضج بمشاعر ...خوف ..ونعي وطن ...أرأيتم كيف يتمدد الوطن حتى لا يسعه تابوت ؟..الحكي يتداخل . و الزمن يثور على نظامه ويخرج عن مساره . و الصدمات و الخوف يهيج البصيرة و الذاكرة لتنفتح الايحاءات وتخلق مجالات لتصنع عمرانا لحكاية تختفي في احشائها حكايات هي مزيج من المرئي و المخفي ، من الخاص و العام ، من الماضي و المستقبل ، من الألم و التوق الى الخلاص ..
عبد الله البقالي

No comments: