Thursday, December 28, 2006

سور العاطلين


يوم رحل الفرنسيون عن القرية ، وجد نفسه وحيدا كاسمه الفرنسي الغريب . وكل يوم مر بعد ذلك لم يزده الا اقتناعا في ان ما يحدث ليس سوى انهيار ونكوص .جلسته الانفرادية بين أطلال الراحلين في "لاس راص " وحدها كانت تهدئ من روعه وتمنحه دفئا يعمل أثناءه على النبش في ذاكرته . لكن مروره امام سور العاطلين كان له مفعولا مختلفا كليا . هذا السور الذي شيده الفرنسيون عند أسفل منحدر . وعملوا على ملء الفراغ الذي يفصله عن حافة الربوة ، فسمح ذلك بمد الشارع الذي يربط شرق القرية بغربها . وقد تبقى منه جزء بارز من الارض رآه تدريجيا يتحول الى مجالس تضم روادا من مختلف الأعمار .في الجهة الشرقية المحادية للمسجد يجلس الشيوخ . و ابتداء من منتصفه الى اقصى الجهة الغربية يجلس الشباب فالصغار في مواجهة مقهى" لاجودان" . هذه المقهى التي اكتسبت شهرة مهمة بالرغم من حداثتها. فعلى شرفتها المطلة على الشارع خطبت شخصية مهمة حين زارت القرية . وفيها كان يحلو لأفراد الورش الدولي أن يجلسوا ، فيرقصون و يغنون . وقد يشتري بعضهم قطعا من الحلوى ويقذف بها للأطفال الذين يتكالبون عليها .لكن اهم من هذا كله ان المقهى ارتبطت بكل جديد عرفته القرية . فمن داخل فضائها صدحت موسيقى اول اسطوانة عبر الفونوغراف . وفيها شوهدت أول صورة على شاشة التلفاز . ولعل لاجودان كان يحس بالفخر و الزهو وهو ينظر الى أولئك الذين ادهشتهم مقتنيات مقهاه العجيبة فلا يتردد في مخاطبتهم قائلا : " لو كان بامكاني ان أحمل باريس الى هنا لفعلت "وحده "غيو" كان الغضب يغلي في صدره وهو يمر محاديا السور . يسأل مرافقا له : ألا تلاحظ شيئا في هذا السور ؟يرد المرافق : لقد تضاعف عدد الرواد منذ أن اقتنى لاجودان الفونوغراف .يعقب غيو : لا .. ليس ذلك هو المهم . تامل جيدا هذا التسلسل . الطفل عندما يولد في هذه القرية يجد له مكانا في الجهة الغربية من السور . وعندما يشب ، ينتقل الى منتصفه . وعندما يشيخ يجلس مجاورا المسجد . وعندما سيموت سيكتشف متأخرا أنه أتى الى هذا العالم كي يقوم برحلة عبر مراتب هذا السور اللعين .ضحكة متدرجة تتعالى ، انه "خاي لحسن" يسأل غيو مستفزا : أخفت ان ينسينا الفونوغراف مواويل أيام شبابك ؟ لا تقلق . سنظل نحتفظ بذاكرة قوية .صوت انفجار عنيف يدوي في أعلى الفضاء .يعقبه احتجاج عفوي حاد من قبل سيدتين كانتا تمران بالقرب من السور . تقول احداهما للأخرى: "أولايلاه" كانت الطيارة الحمراء اكثر رأفة بنا .ترد عليها الأخرى : لماذا تنزعجين ؟ ألا تعرفين أن هذه البلاد هي ميدان للتدريب . كل الوافدين الى هنا ابتداء من الطبيب و انتهاء بالمعلم و الممرض لا يفعلون ذلك الا من اجل استكمال خبرتهم فينا . فلماذا لا تفعل ذلك الطائرات العسكرية ؟يعقب غيو بلا مقدمات على حوارهما : ألم تعرفا لماذا تفعل الطائرات ذلك ؟ ترد احداهما : ومن ان لنا أن نعرف ؟يجيب غيو : لأن الناس هنا لا يفعلون شيئا غير الجلوس على هذا السور.في آخر مرة مر فيها غيو امام السور كان يوم أحيل على التقاعد . مر بلباس مدني . تجاوز السور صامتا . وعندما وصل الى نقطة بعيدة ، قفل راجعا . وقف قبالة الحلقة الشرقية وقال محاولا أن يوصل صوته الى أبعد نقطة ممكنة : سيظل هذا السور يتمدد حتى يكتسح أرواحكم التي لن تغدو غير لبنة داخل أحشائه .بعدها اختفى عن الأنظار . و استسلم لعزلة طويلة رهيبة . أشياء كثيرة تغيرت أثناءها . اذ لم يعد التجديد يدخل القرية عبر مقهى لاجودان التي صارت الآن بالية . كما ان سور العاطلين انضافت له معلمة جديدة عبارة عن تمثال مبهم لا معنى له ، سماع البعض اله القحط ماذا لو يفك غيو عزلته عن نفسه الآن و يقوم بجولة جديد عبر ربوع القرية . لا شك أنه سيقف على تغييرات كثيرة أهمها أن سور العاطلين لم يعد غير مركز لفروع ممتدة فوق كل شبر من تراب القرية . ومن يدري ، فلربما هو نفسه الآن جالس على فرع لذلك السور داخل غرفته المعزولة ."أولايلاه" لفظة من الدارجة المغربية الشمالية . مقابلها في الفصحى " تبا "
عبد الله البقالي

No comments: