Saturday, December 23, 2006

الصورة الأخيرة


للمرة الأولى في حياته لم يفقد هدوءه وهو بصدد انتظار طويل على باب دكان كان "المأذون " قد اتخذه مكتبا . من أين استمد ذلك الهدوء ؟ هو نفسه عجب للأمر و لم يعرف ان كان ذلك يعكس قناعة قد ترسخت , أم فرصة أخيرة منحها لنفسه كي تراجع قرار مصيريا سيصبح ساري المفعول بعد أن يغادر المكتب . كان النقاش داخل المكتب قد تطور الى عراك , وتجاوزت الأصوات الساحة المجاورة للمكتب .ومع ذلك فقد استطاع أن يسترجع في هدوء علاقته بها من بدايتها . كان لا يزال طالبا يوم عرفها . و على عكس ولادة القصص الغرامية العنيفة , لم ينم اللقاء الأول الذي تم صدفة عن أي شئ . وكمثل تحول الليل الى نهار كبرت الحكاية , وصارت رباطا و مشوارا امتد داخل العمر . وكأن الرحلة الطويلة أخذت مأخذها منهما , اختفى البريق من العيون , ولم تعد الأيادي قادرة على حمل الباقات , وعوضا عن ذلك , انتصبت السبابة ناعتة بأشياء شتى نمت على أت الحب لم يعد يملك موطئ قدم في القلب . كل ذلك كان محتملا , لكن أن تصرخ فيه و تصرح بكونها تستطيع أن تعيش من غيره فذلك ما اعتبره نهاية النهايات , و الحد الأقصى الذي يمكن أن تبلغه الاهانة , وطعنة في رجولته و تحديا يجب أن يجابه بتحد أشد . كانت صورتها الأخيرة التي ارتسمت في ذهنه و هي تصرخ في وجهه الدافع القوي الذي يحثه السير قدما , كل التضحيات تهون و تبدو سخيفة أمام كبريائه المجروح و رجولته التي أصرت على أن تضعها في الميزان. توقف الشريط فجأة بسبب نقاش حاد بين زوج كان قد طلق للتو زوجته التي راحت تستنجد بالحاضرين للتدخل و الذي لم يزد الزوج الا اندفاعا و تعنتا . وغادر المكتب وهو يلعن الرجل الذي يضعف امام المرأة, في حين تبعته الزوجة محطمة محاطة بجوقة من الاولاد. انتبه مجددا الى داخل المكتب حيث ابتدأ جدال جديد ينبئ بدرجة عالية من الحرارة . أحس بالتضايق .استدار باحثا عن المرأة الأولى . سأل نفسه : ماذا لو كانت حاضرة و معها صغيرته ؟ وضع راحة يده معتصرا جبينه وهو يغوص عميقا. كم كان قاسيا ..كم كان عنيفا ..لم يكن هو السبب . كانت هي التي جعلته كذلك . يغمض عينيه . يحاول تخطي لحظة لا يريد استرجاعها . لكنها كانت تعاند رغبته . تنتصر عليه. كان خارجا من البيت و الغضب يغلي في صدره . ليلى صغيرته كانت قادمة اليه فاتحة ذراعيها وهي تناديه وعلى ثغرها ابتسامة كاشراقة شمس في أصيل ربيعي . تجاهلها في البداية . حاد عن مسارها ..تداركته ..التصقت به محتضنة رجليه . نهرها .. لم تفهم . التقطها ثم قذف بها بعيدا عن طريقه. يحرك رأسه حركة تنم عن عدم قدرته على فهم كيف حدث ذلك .ينظر الى يديه وهو لا يصدق أنهما اليدان نفسهما اللتان قذفتا بصغيرته . توقف مجددا مستحضرا صورا قديمة . راح يتابع تولد احساس قوي داخله ويتتبعه وهو في طريقه الى فؤاده. انه لا يستطيع أن يتصورها وقد ارتبطت بشخص آخر غيره حتى بعد أن يموت .بل كثيرا ما حاول أن يتأكد من أنه الوحيد الذي عرفته في حياتها حتى قبل أن يعرفها . مجرد أن يتوهم أنها كانت على علاقة ما قبله كان يؤرقه و يحول حياته الى جحيم . لقد أحبها مثلما لم يحب رجل امرأة .. ينتبه مجددا الى أنه في وضع غير مناسب لتذكر هذا . يتذكر الصورة الاخيرة . يعمد الى محاصرة هذا الاحساس الذي كان قبل لحظات يسري في أوصاله ..يوقفه.. يخنقه.. يقتله . لترتبط بالشيطان ان شاءت فما علد يهمه أمرها . النقاش داخل المكتب انتهى الى ما انتهى اليه سابقه مع فارق أن الزوج هو الذي خرج محاطا بالأطفال . لم يتابع المشهد الى نهايته . كان دوره قد حان . استجمع قواه . حاول أن يبدو هادئا متماسكا . تقدم نحو المأذون . شيخ في عقده السابع , نحيل الوجه , أبيض اللحية , يضع على عينيه نظارة طبية تزيده وقارا.تطلع اليه وقال : هل من خدمة ؟ ارتجت أحشاءه و قال : أريد أن أطلقها . - هل لديك معها أطفال ؟ - طفلة واحدة . رفع الشيخ عينيه وقال : أية متاهة اذن تريد أن تزج بنفسك فيها ؟ لم يصدق ما سمع . انذهل . معلوماته عن هؤلاء تؤكد أن ما يهمهم هو جمع المال . لا يهم ان تم ذلك على حساب تيتيم الأطفال و تشريد الأسر . استحسن في العمق موقف الرجل .فكر في التراجع .انتصبت أمامه الصورة الأخيرة . اندفع بقوة و قال : سيدي ما المسطرة التي يجب اتباعها لبلوغ هذه المسعى ؟ أصر الشيخ أن ينفي عنه صورة ماذون وقال : ياولدي . لو أن كل خلاف بين رجل و امرأة ترتب عنه طلاقا , فأنا أجزم أن أحدا منا على الأقل ما كان قد أتيحت له الفرصة كي يأتي الى هذا العالم. منطق سليم . فكر في العودة . تذكر المقولة التي تفيذ أن الذي لا يغفر للمرأة خطيئتها الصغيرة لا يتمتع بفضائلها الكبيرة . لكن هل كان خطابها الأخير مجرد هفوة ؟ تحركت الطاقة الدافعة . ضرب الطاولة بقبضة يده و قال : سيدي . أنت هنا لتنفيذ مسطرة معينة و ليس من أجل مناقشة الناس في قناعاتهم , وان يكن الأمر متاهة فذلك اختياري .. لم يبد الشيخ أي تأثر .وبهدوء قال : سأفعل ما تأمر به . اسمع يا بني . لا ترهن أبدا حياتك بموقف ناتج عن ظرف عابر في حياتك . أنا فقط أريد أن أتأكد من هذا . خذ مهلة . فكر جيدا و عد الي.. أحنى رأسه . غادر المكتب . كان يمشي على غير هدى سالكا نفس الطريق الذي سارا فيه كثيرا أيام حبهما الآفل .. هل كان يعيش تلك اللحظة أطياف الماضي ؟ كانت هي نفسها في المكان نفسه الذي اعتادت أن تنتظره فيه حين كان يبطئ في الحضور . ابنته كانت تجري اليه فاتحة ذراعيها . لم يكن لديه الكثير من الوقت . استدعى شراسته . تباطأت .. بحث في مخزونات ذاكرته عن الصورة الاخيرة . لم يكن لها أثر . رفع عينيه . كانت تبتسم و ابنته صارت أكثر قربا . فتح ذراعيه . التقطها . جرت اليهما , كانت ما تزال تبتسم في حين كانت ابنته تضحك و تضحك و تضحك .

عبد الله البقالي

No comments: