Saturday, December 23, 2006

رواية الركض خلف السراب



" 1 "
كنت مازلت نائما ذلك الصباح حين ايقظك ذلك الدق العنيف المتواصل على الباب والذي لم يتوقف الا بفتحه .انتابك الهلع و ارتسمت على محياك علامات التساؤل و القلق و الحيرة .ازداد اندهاشك اكثر حين رأيت "يوشو" بقامته الطويله وجسمه النحيل وقد ارتسمت على ثغره ابتسامة كادت ان تبارح وجهه . لم يترك لحيرتك ان تدوم اكثر . عانقك وزف اليك نبأ عشت لسماعه خمس سنوات . قال لك : " ابشر . لقد افرج عنك و آن لك ان تغادر منفاك الاجباري " لم تصدق . انذهلت . بقيت مصعوقا . قفلت عائدا الى الداخل تاركا مبشرك بالباب وكانه صار شيئا من الماضي الذي ابتدا لحظة قرعه . كنت تائها ، خبر عشت لسماعه خمس سنوات يفاجئك وانت في السرير . كنت تتوقع ان تركض وراءه وتركض في محطات لا تعدادا لها . وتتسلمه وانت تقطر عرقا و يأسا . لكنه يفاجئك وانت نائم .. قفلت خارجا تجوب الازقة و الدروب . الناس الذين كانوا يمرون بك بدوا وكأنهم تحولوا الى اشباح . وكأن ما عادت لك بهم صلة.الحزن . الفرح . الحضور. الغياب ...احاسيس كانت تتنافس من اجل السيطرة على ملامح وجهك الذي بات كسفينة مهجورة عند ساحل البحر . المفاجأة كانت كبيرة . لم تتمالك نفسك ازاءها . افسحت المجال لصور معينة كي تغزو ذهنك . عدت للوراء كما كان يحلو لك ان تفعل طوال خمس سنوات . الى اليوم الذي التحقت فيه بمركز التدريب الذي يحمل اسم الشخص الذي كنت ترى ان مصيرك لن يختلف عن مصيره . مع فارق ان الاول احرق وانتهى في بضع دقائق في حين ستمضي عمرك انت تحترق على مهل . قضيت هناك سنة كاملة كنت اثناءها تنظر الى ما حولك من شرفتين مختلفتين . الشرفة الخلفية كنت تطل منها على المسار الذي انبعثت منه . و الشرفة الامامية تطل منها على المتاهة التي ستقذف فيها بعد حين . الشرفة الخلفية كانت الاكثر جاذيبة . تصغي السمع عبرها فيتناهى اليك صوت الجدة خافتا تسألك وانت عائد لتوك من المدرسة ." ماذا ستشتري لي حين تصبح موظفا ؟ السؤال كان له مفعول انفجار داخلك. بسرعة تعود بك الصور الى الوراء . تتذكر شكلك وانت في طريقك الى المدرسة اول مرة .الاكتشافات توالت بسرعة بعد ذلك . و بالقدر الذي كانت علاقتك تتشعب بالعالم ، بالقدر نفسه كان الاحساس بالدونية يتعمق داخلك . فرحتك ازدادت يوم صارت لك محفظة . بها كتاب ولوحة وطبشورة . فتحت الكتاب . وكأي طفل تسحره الالوان نظرت بانبهار لكتابك الملئ بالصور و الرسوم . احتضنت الكتاب غير مصدق ان ذلك الكتاب هو لك وحدك . وحين اطمأنت . عاودت فتحه مستعرضا ما فيه من صور ورسوم . في البدء كنت مجرد متفرج شغوق بمعرفة ما يجري في عالم بعيد لا يعنيه في شئ . لكنك حين الفت الصور و عاودت قراءتها . نبع تمردك من البوابة نفسها التي توارى خلفها اعجابك . لا تعرف كيف استنتجت ان حياتك هي محل سؤال . اهو ذلك الفارق المهول بين ما كنت تعيشه وبين ما كانت تنطق به الصور ؟ ..اهي تلك المعاملة الرقيقة التي كانت تفيض من الصور و التي افتقدت اليها عالم رجولي عنيف كان يلف حياتك ؟.. لم تكن لتصمد امام هول الفارق .كل شئ كنت تجده يصرخ فيك ويشهد بدونيتك .المنازل الراقية . السيارات الفخمة . الحدائق المترامية . الغرف الرحبة . الارائك . الستائر . المزهريات ... اشياء كثيرة كانت تجعلك تغلق الكتاب وتنظر الى ما حولك . تتأمل الحصير المتآكل الجوانب . الاغطية المبعثرة بلا نظام . الكوة الضيقة القائمة عند منتصف الجدار و التي كانت مشروع نافذة . .. لكن مع هذا كنت تستطيع ان تصمد مدفوعا في ذلك باعتقاد مفاده ان هذه مشيئة الله ، وصرامة تلجم كل من يتطلع الى اشياء الاخرين . غير انه في العمق كان ما يزال ثمة بقايا احساس متمرد . احساس كان يتحول الى حريق يدفعك كي تستغيث . لكن الناس الذين كانوا حولك و احاطوك كنت تجدهم رمادا ما كان ابمكانهم ان يفعلوا شيئا من اجلك . ان تكون موظفا معناه ان تشق طريقا كمثل تلك الطرق التي كنت تبحث عنها خلف الصور حين كنت تفكر في الهروب الى ذلك العالم الحالم الذي كان يستدعيك .. عوالم كانت تساؤلات الجدة تفتحها دون ان تدري . لذلك كنت تجيب بحماس وتصميم - ساشتري لك كل شئ .. كل شئ .. فساتين ..احذية ..جوارب .. قمصان .. جلاليب .. تضحك الجدة وتضحك بملء شدقيها . تسألها وهي لا زالت مستغرقة في ضحكها .. - اتعرفين من اي نوع يا جدتي ؟ تتصنع الاندهاش . تفغر فمها وتجيب منصتة بكل حواسها . - لا . ترد بنفس الحماس و الانفعال - من حديد يا جدتي .. من حديد .. تعاودها نوبة الضحك . تنادي النسوة وتحكي لهن ما دار بينكما . تعيد طرح نفس الاسئلة . تسألك النسوة ما ان كن سيحظين بنصيب من هداياك . يزيدك ذلك حماسا وانت تجيب محدا نوع الهدايا بتحديد قيمة كل واحدة منهن .. لم تكن تعرف لماذا كنت تصر على ان جميع مقتنايتك للجدة ستكون من حديد . وكانك كنت تتمناها ان تصمد لتعيش الحدث . او كأنك كنت تدرك بحدسك نهايتها المأساوية حين ماتت مختنقة بميبد الحشرات . لكن هاهو ذلك اليوم الذي كان يلوح لك من بعيد قد حل الان . تنتقل الى الشرفة الامامية . تنظر اليه . تتفحصه . تبحث عن ذلك المغناطيس الذي جذبك بقوة اتجاه هذا اليوم وتجعلت خطاك تسرع هاربا من الصبا . فهل انخدعت حين فعلت ذلك ؟ ما عاد السؤال مهما الان و لا مفيذا . لكن بامكانك ان تتجنبه . سر قدما الى الامام . فهناك ن على بعد خطوات او اميال ستولح لك بوابة جديدة . اعبرها وبعدها سيلوح لك وهما جديدا تجري من اجله . انس المشوار الذي قطعته من الصبا الى هنا . وانت تجري اتجاه بوابة وهمك الجديد . احذر ان تقع عينيك على ركام ايامك المستهلكة ، فان انت فعلت فاعلكم ان ذلك سيفسد عليك عمرك المتبقى . يتبعوانت تحمل اشياءك للمرة الاخيرة ، ناداك مدير المركز قائلا : أنت ... يامن كان يدعي ان هذا المركز هو امتداد لفضاء الجحيم ... ما رأيك انك ستذهب للعمل في مكان سيظهر لك بالملموس انك كنت في الجنة و ليس في الجحيم .؟ استدرت وقلت في لا مبالاه : لن استغرب ذلك ما دمت اعرف ان احاسيسي وحواسي قد تبلدت يوم وضعت نفسي في خدمتكم . عدت للقرية منتظرا ان تلوح لك بوابة وهمك الجديد ، وفي انتظار ذلك كنت تسخر من الرفاق الذين كانوا قد تعرفوا على اماكن عملهم . تقول لقريب عين في ضواحي مدينة جنويبة بعيدة : " العقل الالكتروني كان رؤوفا جدا بك . لفد عز عليه ان يذهب شبابك سدى . ولذلك فهو حين قرر ان ينظر في امرك ، وضع شبابك اليافع في كفة مع تطلعك للحياة . ووضع في الكفةالاخرى اعداد افراد اسرتك الوفير . لذلك ابعدك عنهم مجنبا اياك دفع حساب فاتورة ثقيلة لست انت من ضخمت ارقامها . تقول لآخر : حقا ان العقل الالكتروني ذكي للغاية . لقد اعتمد في قذفك الى تلك الربوع على مبرر في غاية النباهة لا يخطر على بال ، وهو انه اكتشف ثمة خاصية مشتركة بين اسمك واسم الاقليم الذي اختاره لك .وهو ان كلا الاسمين يتكونان من احرف كلها متنافرة . كنت آخر من تعرف على مكان عمله .الرفاق لم يعلقوا بشئ بالرغم انه منذ امد وهم يستعدون لذلك .لا اشفاقا عليك ولا لأن المكان مناسب وانما لأن لا احد و لا انت سمعت باسم ذلك المكان من قبل . بحثت في الخرائط و سألت الناس . وفي الاخير بالصدفة عرفت . تشبثت بالرجل الذي حدثك عن المكان ، وحين راعك ما سمعت تشبثت بالرجل مطالبا اياه ان يصرح ان ما تفوه به لم يكن سوى مكيدة من الرفاق . لكن صرامة الرجل وجديته جعلتك تخجل من نفسك . وعدت للخريطة تبحث على ضوء المعطيات الجديدة . غرب "تندوف" شمال "الزاك" جنوب "كلميم" . انهرت حين طالعك الاسم . "آسا" اسودت الافاق في وجهك وفقدت الحياة سحرها . رفاقك قالوا عنك هازئين " ان العقل الالكتروني يعرفك معرفة شخصية . لذلك فقد وضع في حسبانه حبك للمغامرة ، وشغفك بدراسة التاريخ والظواهر الاجتماعية . لذلك ارتأى ان يمنحك الفرصة . اذ وانت تقطع المغرب من اقصى شماله الى تخم عميق في الصحراء ، ستمر بالكثير من الوديان و الجيال والسهول . وستتعرف على كثير من المدن و القرى . و تتعرف على انواع مختلفة من العادات و التقاليد ، فيكون ذلك ميدانا خصبا تنمي فيه مواهبك .. لم تغضب ولم تعلق . و لأنك لم تسمع ما قالوه لك اصلا . ولأنك كنت منشغلا بوضع ترتيبات لغزوة شيئ لك ان تكون قائدها . لكن بلا مشيئة ولا روح . لكن مشيئة من كانت ؟ مشيئة الله ام مشيئة العقل الالكتروني ؟.. لتكن ، المهم انت من سيخوض غمارها . لذلك امضيت الوقت في وضع ترتيبات لمكان وزمن لا تعرف عنهما اي شئ . غير انك كنت تصطدم بالظلمة والغشاوة فتنحجب عنك الرؤية . تثور . تنفعل .ثم تقرر ركب الخطب . لا زلت تذكر ذلك الصباح ولا شك . وقبله لم تنم ليلته . كوابيس واشباح كانت تقتحم الاحلام وتسودها . روحك كانت تنزف . اياد كانت تمتد اليك وتنتزع منك روحك . تصرخ . تتمرغ . تبكي بكاء صامتا وا اقسى وقع البكاء الصامت . وحين علا صراخك كم فمك وغلت يداك . شرحت واخذت منك روحك عنوة ووضعت في قفص محكم الاغلاق وقذف بها خارج المكان و الزمن . مفارقة عجيبة عشتها ذلك الصباح . في الوقت الذي كانت روحك تصادر كانت الغرفة المجاور لك تعرف قدوم كائن جديد . سمعت صراخ ذلك الكائن . لكنك لم تسأل ولم تهتم . كنت منشغلا بتشييع روحك . لممت اشياءك بعد تردد طال . القيت نظرة اخيرة على فناء البيت المكشوف للسماء والذي كان لا يزال قابعا تحت اجنحة الظلمة . وقفت عند عتبة الباب وفي مقلتيك دمعات ساخنة . استدرت . لاح طيف امك على بعد امتار. اقتربت اكثر . استطعت ان تتبين شفتيها تتمتمان . اي دعاء كانت تدعو به ؟ واية سور من السور القصيرة التي تحفظها كانت تقرأ ؟ لم تعرف . لكن الذي ادركته هو أن اصداء نحيبك الداخلي كان يصلها . لذلك لم تفلح في مقاومة دموعها . انهرت . ليس بفعل تاثير احاسيس اللحظة ، ولا لأنك مقدم على فراق الاسرة والاهل و الرفاق ومسارح الذكريات وانما لأول مرة منذ زمن بعيد ترى هذا الربان الذي قاد فلكه في مواجهة اعتى الاعاصير ينهاراخيرا ويبكي . صحيح ان كل اغانيها التي غنتها وهي تطحن الحبوب في رحاها اليدوية الحجرية كانت كلها مفعمة بالحزن . لكنها لم تكن اغان . كانت خيوط ضوئية تؤقت نبضات الافئدة على ايقاع صعود وخفوت صوتها . شاشة تنتصب ليعرض عليها مشهد وحيد . عش واهن في مسار اعصار . ينتابك الخوف . تنظر الى الجهة التي اختفى فيها الاب آخر مرة راكبا حصانه . لكن صورةالاب سرعان ما كانت تنمحي . بل يمسحها هو لانشغاله بأمور اسرة اخرى لم يكن ما يربطكم بها سوى الخط الذي كان يرسمه مسار سفره . تغير وجهة نظرك . ينتابك احساس صاعق . شعور من ليس له اب في عالم رجولي . تعود لتنظر اليها . هي كل شئ . هي الوجود والحياة هي الامن و الامل . تقترب منها اكثر . وكانها كانت تدرك ما كان يدور في الاذهان . لذلك بسرعة كان الصوت الحالم يختفي . تلبس قناعها وتصرخ في الجميع بنيرة تملؤها الشدة والشراسة . لكنها في تلك اللحظة كانت تبكي . تمنيت لو لم تفعل ذلك . وكمثلما كان يحدث في القدم . استجمعت قواها وقالت محاولة دفعك للتماسك . " لا تقلق . يوما ما ستعود وسينتهي كل شئ " اختصرت كل مآسيك التي يمكن ان تعيشها في كلمتين . حاولت ان تمثل . ان تبدو رابط الجأش وانت تودعها . اختفيت تحت سدائل الظلمة ومضيت . منفردا ستواجه كل الاحتمالات ، وحذار ان تعود منهزما . تسال نفسك وأنت تقطع المسار الفاصل بين الماضي و المستقبل . من انت ؟ وماذا كنت قبله ؟ تصل الى جواب وحيد : "انت مثلما كنت ، كائن اتى الى هذا العالم دون ان يعرف هل كانت تلك رغبته ام لا . حرباء تستمد الوانها من الوان الامكنة كي تستمر . لكن ما لونها الاصلي ؟ نسته او تناسته ما دام ارتداؤه يهدد بقاءها . وأنت افعل الشئ نفسه واحذر كل شئ وافعل كل شئ .واصغ السمع جيدا للأشياء التي لا تنطق فقد تجد روحك عبر ذلك طريقها الى جسدك ..
يتبع



No comments: