Sunday, October 12, 2008

البياض القاتم

حين لم يتبق غير القليل من المترشحين داخل القاعة، تمطى المراقب مستشعرا أن الجزء الصعب من مسؤوليته كمشرف على نزاهة الامتحان قد انقضى. وهو ما لطف من مزاجه وخفف من الحدة ودقة المتابعة لكل حركة داخل القاعة. و لكونه يشعر بالارتياح، فقد راح يستعرض من تبقى في الداخل، بشكل كان يقف فيه حينا عند الصورة البادية للعين. و اخرى كان يتجاوز فيها ذلك، ليطل على المساحات الخلفية للمترشحين الحابلة بالاحلام و الانتظارات.
لستوقف المراقب منظر رجل تجسدت فيه كل سمات الغرابة. فهو يخطو بثبات نحو نهاية عقده السادس. رأسه اجتاحه الشيب الذي رسب متجاوبا عجيبا مع بشرته السوداء. يرتدي بذلة رمادية مكتملة تغطي كل جسده، و تحتفظ المساحات تحت الطيات بذاكرة الكسوة التي تفيد انها كانت يوما ما زرقاء داكنة. وعلى عكس كل المترشحين، فقد وضع الرجل على منضدة طاولته كل الادوات التي يستعملها عامل كهربائي، ابتداء من القفازات البرتقالية، إلى لاصقات الأرجل المسننة التي تسمح بتسلق الاعمدة الكهربائية الخشبية. غير ان الاكثر إثارة كان هو أن الرجل لم يكتب كلمة واحدة على ورقته بما في ذلك اسمه، رغم أن وقت المباراة كان قد شارف على النهاية.
هو الحسن الاكحل الذي لا يعلم احد أي ريح ساقته إلى تلك القرية الشمالية الموغرة في الهامش. وكان يمكن لقدومه ان يكون مختلفا لو تم في ظروف مغايرة، وذلك لبشرته السوداء و لكنته الغريبة المضحكة. لكن ذلك لم يحصل لأنه حل مرفقا بحادث كبير شغل جميع الناس، بسبب انتقال القرية للاستفادة من نظام كهربة جديد الذي عوض نظام تشغيل المولدات بالكازوال. وقد أدهش الناس ما كان يحكى عن تلك الطاقة الرهيبة وقرتها الهائلة في احداث الهلاك في زمن قياسي. وقد زكى ذلك ما قام به الرعاة هنا و هناك حين دفع بهم الفضول و حب الاستطلاع الىأن يتجراوا على صعود الاعمدة الكهربائية ، ولمس الأسلاك ذات الضغط العالي. و أيضا المجازر الرهيبة التي قضت على اسراب كثيرة من طيور اللقالق، أضف لذلك الرسوم الرهيبة التي كانت توضع أسفل الاعمدة مجسدة لهياكل عظمية وقد دون تحتها عبارات مخيفة جدا تنصح بعدم الاقتراب.
وسط هذا الانشغال انبعث الحسن الاكحل. و لكونه شوهد يستلق الاعمدة و يلمس الأسلاك دون ان يصيبه مكروه، فقد اعتبر انسانا خارقا للعادة. و ذهب البعض الى حد اعتباره مسندا من قبل قوى غيبية. كما تم الاعتقاد أن سواد بشرته مردها إلى تأثير ما مرتبط بحكاية تفصح عن نوع من التزاوج و الاندماج مع تلك الطاقة الرهيبة التي جعلته مجسدا للتسمية التي حملها بفخرمول الضو
في كل سنين شبابه و جزءا من كهولته، امتد سجل مفاخره الذي يثبت استثنائية الأمجاد التي كتبها. و الاعتبار الكبير الذي حظي به. فقد كان يروقه دوما أن يعمل ومحاط بالناس الذين كانوا ينظرون بنوع من القداسة لما كان يقوم به. فيتجمع الناس تحت الاعمدة. و ينادي اخرين من بعيد. و قد يستغل تواجده في الاعالي ليطل على بيت مكشوف الفناء، ليخاطب امراة ما و يطالبها بتزويد الوجبة التي تعد من اجل استضافته. غير أنه هذا البساط لم يكن ذهبيا كله. فقد كانت تتخلله صفحات من الكدر بعد ان تتوتر علاقته بالاطفال الذين كانوا يكسرون الكؤوس الزجاجية التي تلف حولها الاسلاك حين كانوا يحاولون اصطياد العصافير. لكن ذلك لم ينل من أسطورته، إلى ان استدعي للامتحان الذي يجتازه الآن.
اقترب المراقب من الحسن و نظر من جديد إلى ورقته البيضاء التي قرأ فيها المصير الذي يتجه صوبه. وشعر بتعاطف غريب معه ، فخاطبه قائلا: حاول أن تكتب شيئا. يمكنك طلب المساعدة من احد المرشحين.
قال الحسن متجاهلا ما يعنيه له البياض هذه المرة : قد طلبتم منا ان نحضر. و ها قد حضرت

No comments: